الجمعة 26 ابريل 2024
الرئيسية - كتابات - المؤرخ اللبناني " فواز طرابلسي " ينشر تقديمه لمذكرات جارالله عمر
المؤرخ اللبناني " فواز طرابلسي " ينشر تقديمه لمذكرات جارالله عمر
فواز طرابلسي
الساعة 03:34 مساءً (متابعات)

يضم هذا الكتاب سلسلة من المقابلات أجرتها الأكاديمية الأميركية ليزا ودين مع جارالله عمر بين الأعوام ١٩٩٩ و٢٠٠٢ في مجرى إعدادها لكتاب عن اليمن بقيت غير مكتملة باستشهاده يوم ٢٨ كانون الاول/ديسمبر٢٠٠٣.

وقد تفضلت ليزا بتسليمي المخطوطة وتركت لي حرّية ومسؤولية تحريرها وإعدادها للنشر.



 وأنا شاكر لها ثقتها ومبادرتها في وضع هذه الوثيقة النادرة بين يدي القراء في اليمن والعالم العربي. غني عن القول إنني اتحمّل بمفردي المسؤولية عن الحصيلة النهائية للمخطوطة.

جارالله عمر نسيج وحده في الحزب الاشتراكي والسياسة اليمنية يتفرّد بقدر ما يجمع. سعى للجمع بين الوطني والقومي من جهة والتحويل الديمقراطي والعدالة الاجتماعية من جهة أخرى، في زمن يُعْمَل المستحيل للتفرقة بين هذه المستويات المتداخلة من قضايانا العربية.

هذا الكتاب شهادة أيضا على أن جارالله عمر نادر بين القادة الثوريين الذين تجرأوا على مراجعة تجربتهم مراجعة جذرية. على النقيض من ممارسة مألوفة لدى الكثير من المعارضين العرب الذين يستسهلون موالاة نظام استبدادي للنضال ضد نظام استبدادي آخر، وقف جارالله عمر أمام تلك المفارقة متسائلا كيف يمكن أن يؤيد حكم الحزب الواحد في جنوب اليمن فقط، بل وأن يشارك في قيادته، وهو يقود، من عدن، معارضة شعبية مسلحة وسياسية لإسقاط نظام حكم الحزب الواحد في الشمال؟

لم يؤخذ برأي جارالله في مسألة التعددية والتحويل الديمقراطي. ولا أخذ برأيه عندما دعا لمرحلة انتقالية ينجز فيها النظام في الجنوب التعددية والتحويل الديمقراطي، قبل الانتقال نحو وحدة كونفدرالية بين شطري اليمن.

تقرّرت وحدة اندماجية عجولة واعتباطية بالاتفاق بين رئيسي الجنوب والشمال سوف تمهّد للنزاعات اللاحقة وللحرب بين الشطرين.

بمثل حماسه للوحدة كانت معارضة جارالله لسياسات الاستئثار ومحاولات تهميش الحزب الاشتراكي في ظل نظام الوحدة. لكنه مع تزايد مصاعب الشراكة في الحكم مع حزب المؤتمر، دعا إلى انتقال الحزب الاشتراكي إلى المعارضة على اعتباره السبيل الوحيد لتفادي الاقتتال بين شريكَي الحكم. هنا أيضا، لم ينجح في إقناع قيادة الحزب التي كانت متمسكة بالمحاصصة في السلطة. وعندما تدهورت الخلافات بين الطرفين واندلعت المواجهات العسكرية، عام ١٩٩٤، أدان جارالله عمر الحرب والانفصال في آن معا. تعرّض للتخوين من فريقي النزاع واضطّر إلى مغادرة عدن سالكا طريق المنفى بعد أن تفاقم الخطر على حياته - من قبل الرفاق!

عاد جارالله إلى اليمن والحزب الاشتراكي مهزوم عسكري، مشتّت القوى، وقد صودرت أمواله وممتلكاته ومقرّاته، فأسهم بدور أساسي في إعادة بناء الحزب وتنشيط مشاركته في الحياة السياسية. دعا إلى المشاركة في الانتخابات النيابية لعام ١٩٩٧، فواجهته أكثرية حزبية تدعو إلى مقاطعة العملية الانتخابية. التزم بقرار الأكثرية ولما قرر الحزب خوض الانتخابات في دورتها الثانية كان قد خسر من الشعبية والأصوات ما لا يمكن التعويض عنه.

هكذا كان جارالله يبتكر، يتحايل، يلتفّ، في الردّ على تكتيكات السلطة بواسطة مخيّلة وحنكة سياسيتين نادرتين. لكنه دخل منطقة الخطر عندما كان أحد مهندسي «اللقاء المشترك» وهو الائتلاف السياسي الذي ضم التيار الإسلامي-القَبَلي المتمثل بالتجمع اليمني للإصلاح والمعارضة التقدمية المدنية التي يمثلها الحزب الاشتراكي اليمني وحلفاؤه الناصريون والديمقراطيون.

يوم ٢٨ كانون الاول/ديسمبر ٢٠٠٢، ألقى جارالله عمر أمام مؤتمر التجمع اليمني للإصلاح، خطابا دعا فيه قوى المعارضة، الدينية والعلمانية، إلى العمل معاً من أجل مكافحة الفقر والفساد والأميّة وتهميش النساء ومقاومة تشويه الديمقراطية. بعد دقائق، تقدّم منه عميل للسلطة وأطلق النار على صدره وفي ظنه أنه يطلق النار على تلك الأهداف.

= = =

تعرفت إلى جار الله عمر في عدن، مطلع السبعينات، وقد انتقل من شمال الوطن. ومنذ ذلك الحين صار جارالله مرجعي في اليمن جنبا إلى جنب مع صالح مصلح وقد نمت بيننا سريعاً علاقة رفقة نضالية وصداقة شخصية مميزة.

وكان جارالله وصالح فريقا على حدة في قيادة الحزب الاشتراكي اليمني يرفض الانضواء في الكتل المتصارعة ويعمل بصمت من أجل قيادة فرع الحزب في الشمال وتحقيق الوحدة اليمنية.

رافقتُ مسيرة جارالله قائدا للعمليات العسكرية للجبهة الوطنية الديمقراطية، ثم أمينا عاما لحزب الوحدة الشعبية، بعد أن انضمّتْ إليه فصائل شيوعية وقومية أخرى، وعضوا في المكتب السياسي للحزب الاشتراكي اليمني ثم نائبا لأمينه العام.

رافقته وهو يفاوض رئيسيَن من رؤساء اليمن الشمالي، إبراهيم الحمدي وعلي عبد الله صالح، باسم معارضة مسلّحة تسيطر على أجزاء واسعة من البلاد.

لبّيت دعواته إلى مؤتمرات ثقافية دعماً لدعوته للتعددية والديمقراطية في اليمن الديمقراطي.

كما لبّيت دعوته مع محمود درويش وميشال خليفه للبحث في تصوير فيلم عن امرئ القيس عندما كان وزيرا للثقافة في اليمن الموحّد. عرفته لاجئا ومنفيا، وعائدا إلى الوطن، وقائدا لمعارضة، سياسية هذه المرة، تسعى للبقاء على قيد الحياة وتحافظ على استقلالها في أصعب الظروف.

وبعد انقطاعي عن زيارة اليمن منذ خريف العام ١٩٩٣، صار جارالله صلتي شبه الوحيدة باليمن. أنتظرُ زياراته لبيروت للمشاركة في مؤتمر أو ندوة لأستمع الى ما يسمّيه «تقارير» يقدّمها عن حال اليمن والحزب الاشتراكي اليمني.

في كافة أحواله وتحولاته جسّد جارالله عمر بالنسبة لي الأبرز والأجمل من خصائص شعبه: النبل والتواضع، الجرأة والتسامح، التشدد في المبادئ والمرونة في مسارات تحقيقها، فضلا عن ذلك المزيج المميّز من الدهاء والصدق الذي يكتشفه فيه جميع الذين عرفوه.

جرى ترقين القسم الأكبر من هذا الكتاب خلال حياة جارالله بخط اليد في ٢٨٤ صفحة، والباقي تسجيلات صوتية بلغت مدتها ٧ ساعات. تولّت الصحافية زينب سرور، من فريق مجلة «بدايات»، ترقين المخطوطة والتسجيلات الصوتية وتأمين حد أدنى من الصياغة بالعربية الفصحى.

وتوليت مهمة التحرير النهائي بما فيه تحويل العامي إلى فصيح مبسّط حرصت فيه على أن لا يؤثر في المعنى أو يفقد طلاقة السرد واسترساله.

وقد حذفت التكرار، وتخلّيت عن معظم الأسئلة، على ما فعل جارالله نفسه عند إشرافه على ترقين التسجيل بخط اليد، أو ضمّنت السؤال في الجواب ذاته، واكتفيت بإثبات أسئلة ليزا عندما كانت تنطوي على نقاش لرأي من آراء جارالله أو معارضة لقول من أقواله.

اجتهدت في تفسير أو توضيح كلمات وتعابير وضعتها بين هلالين مستقيمين [ ] وأضفت عددا من الهوامش التفسيرية.  كما سوف يلاحظ القارئ، يَعِد جارالله بالحديث عن عدد من الأمور ولا يعود اليها وقد قطع الموت رغبته في تنفيذ تلك الوعود. هذا وقد جرى ترقين هذا الكتاب وتحريره بدعم من مؤسسة روزا لوكسمبرغ، مكتب بيروت.

اخيراً، أدفع هذه المذكرات إلى النشر وكلّي ثقة بأنها الوصية التي أراد جارالله عمر أن يتركها لرفيقاته ورفاقه ومحبّيه الكثر وشعب اليمن.

*فوّاز طرابلسي

 

 

 


آخر الأخبار