في زاوية نائية، حيث الأمواج الهادئة تنحت الصخر وتنسج على الشواطئ قصائد من رغوة وحنين، تتوارى سقطرى كجوهرة ضائعة في قلب المحيط الهندي، جزيرة يمنية أفلتت من خرائط السائحين وعناوين وكالات السفر، لكنّها لم تفلت من عدسة المصوّر الأميركي كريس شالك، الذي جاء يحمل فضول مجلة Vogue، فعاد محمّلًا بفتنة لا تُوصف.
هي سقطرى، حيث لا ضجيج لحرب، ولا صخب لمدينة، بل هدير المدى وسكون الأزمنة. جزيرة تحرسها الجغرافيا، ويوقظها التاريخ، ويتنفس عبرها نبات لا يوجد له شبيه، ولسان لا يشبهه لسان.
من أبوظبي إلى الفردوس المنسيّ
في مطار أبوظبي، وقبيل الصعود إلى الطائرة، كان الاصطفاف مثيرًا للدهشة. رجال بأثواب ناصعة، نساء بحجاب حريري، ولكن أيضًا شباب يثرثرون بالإيطالية والروسية والأفريقانية، وعائلات صينية بكاميرات رقمية، وأوروبيون متقاعدون بكاميرات احترافية، وسيدة بريطانية كأنّها خرجت توًّا من إحدى حدائق نوتينغ هيل. لم يكن هذا الحشد ما يتوقّع المرء أن يراه في رحلة متجهة إلى اليمن.
لكنّ سقطرى ليست اليمن كما نراها في الأخبار. فهي بقعة نائية في بحر العرب، أقرب إلى الصومال من صنعاء، لم تُدنّسها الحرب، ولا لوّثها التدخل. عدد سكانها ستون ألفًا يتحدثون لغة أقدم من العربية، ويعتبرون جزيرتهم وطنًا مختلفًا، مستقلًا بهويته وسحره وعزلته.
لطالما كانت محجًّا للعلماء والمستكشفين، لكنها اليوم وجهة لعدسات الإنستغرام، حيث يسعى هواة الطائرات المسيّرة لتوثيق جنّة لا تُشبه سواها. ورغم هذا، لا تزال سقطرى تُغادرها الرحلات الجوية النادرة من أبوظبي مرتين أسبوعيًا فقط، ما يجعل عدد الزائرين لا يتجاوز أربعة آلاف سنويًا. أما السكن، فحكاية أخرى؛ فنُزُلات حديبو متواضعة بالكاد ترقى للوصف، ويفضّل معظم الزوار التخييم البسيط.
لكنني لم أكن منهم.
رفاهية تخييم لا تُشبه أحدًا
أقمتُ في مخيم متنقل يديره فريق رحلات جزيرة سقطرى، يشبه في رقيّه فندق ريتز، وفي أسعاره كذلك. خيام فسيحة بملاءات قطنية، وحمّامات خاصة، ومجالس بدوية تزهو بالسجاد المنسوج والوسائد الفارسية. كل شيء فيه يحمل روح الجزيرة، ويُدار بجِمال قديمة ومركبات متآكلة وتنظيم مذهل يقوده شون نيلسون، الجندي السابق في البحرية البريطانية، الذي حطّ رحاله هنا أول مرة على متن قارب مليء بالماعز، بعد أن انطلق من موطنه الجديد في سلطنة عمان.
قال لي بينما كنا نترنح في سيارة عبر وديان تظللها النخيل: "حين ظهرت الجزيرة من بين الضباب، بدت كأنّها سراب. شيء من الأسطورة. شيء لا يمكن تصديقه".
أصداء البحر، ورائحة اللبان
في الصباح، تفتّحت الخيمة على صوت الموج، ورمال تُضيء بلون الكهرمان، وبحر زجاجي لا يعكّره سوى آثار السرطانات والماعز. بعد لحظات، جاءني مدير المخيم يحمل قهوة يمنية وفطورًا ساخنًا من خبز القرية.
رافقتُ سالم أحمد، مرشدي وقصّاص سقطري بالفطرة، في استكشاف الكهوف والمسارات الجبلية حيث تنمو أشجار القنّب واللبان، وتفوح الراتنجات من الجذوع كما لو أنّها أرواح منسية تبحث عن حياة. قال لي: "في الزمن الغابر، كان اللبان أغلى من الذهب".
غصنا في برك وادي بلون اليشم، وسبحنا فوق الشعاب المرجانية الملونة. وعلى نتوء صخري، راقبتُ فتيانًا حفاة يصطادون سمك التريفالي ليبيعوه لفريق المخيم مقابل ريالات قليلة. في الليل، جلسنا حول نار تشتعل، وتحدّث نيلسون عن فلسفة مخيمه: رفاهية لا تغزو المكان بل تنسجم معه.
"نحن لا نصنع جزيرة اصطناعية للزوار"، قالها وهو ينظر إلى نيران المخيم. "نحن ننسج أنفسنا داخل نسيج سقطرى. نعمل مع السائقين، والرعاة، والصيادين، والموسيقيين. هم الذين يصنعون الرحلة معنا".
أشجار الزمن، ورجال الجبال
في أيام لاحقة، صعدنا إلى هضبة ديكسام، حيث تمتد أشجار دم التنين العتيقة على مرمى البصر. لم نتوقف عند المواقع المزدحمة، بل واصلنا طريقًا لا يسلكه إلا العارفون، حتى بلغنا منطقة نائية استقبلنا فيها سليمان المروه، راعٍ ستيني، وُلد في كهف قريب ولا يزال يعيش بين ماعزه.
أرشدني في الغابة الحجرية، وعند جذع شجرة قال إنها أكبر من جدّه، خدش اللحاء بسكين عتيقة لتخرج منه قطرة حمراء من الراتنج، وشرح كيف كانت هذه القطرة علاجًا وسحرًا وذهبًا.
"رأيت المطر يختفي، والعواصف تقتلع الأشجار، والسياح يتركون نفايات تأكلها ماعزي"، قالها بصوت فيه شجن. لكنه لم يفقد الأمل. فقد أنشأ مشتلًا لأشجار دم التنين، يُحاصرها بأسلاك لتحميها من الماعز.
"لن أعيش لأراها تكبر، لكن جدي قال لي: أحبها أكثر من أطفالك. إنها الحياة".
لغة تتلاشى، وذاكرة تُوثَّق
في طريق العودة، حدّثني سالم عن مشروعه مع نيلسون: أرشيف سمعي للغة السقطرية، التي لا تملك أبجدية مكتوبة، وتكاد تختفي تحت وطأة التمدّن واللغة العربية.
وبعد أسبوع، عند عودتي إلى مطار حديبو، كانت الوجوه ذاتها تظهر مجددًا. كاميرات، تيك توك، وابتسامات تلتقط لحظاتها الأخيرة في الفردوس.
لكنّي غادرت بشيء مختلف. رسالة.
رسالة من سليمان، الذي لا يعرف الإنجليزية لكنه يعرف كيف يحكي قصة الشجرة. من سالم، الذي يُقاوم انقراض اللغة. من نيلسون، الذي يصمم سياحة تحفظ لا تستهلك.
رسالة من سقطرى، جزيرة لا تصرخ، بل تهمس. تقول: "أنا هنا. لا تُفسدوا هذا الجمال الهشّ".