بواتبي كتابات
بقلم د احلام محمد علاقي
أخبرتني صديقة ولدت وكبرت في قرية إيطالية بأنها كانت تعرف جميع سكان القرية ويعرفونها وكانوا يشعرون وكأنهم أسرة واحدة وكان من المستحيل أن تهرب من المدرسة فسيكون هناك شهود على أماكن تواجدها فالخباز يعرفها والصيدلاني، ومديرة المدرسة تأتي لمنزلهم لتتناول العشاء ومعها الممرضة والقسيس. وكبرت وهي تشعر بالانتماء فجدها أخبرها بأنها غصن صغير في شجرة عظيمة ممتدة وأهم شيء هو الحفاظ على سمعة العائلة. كبرت صديقتي وتزوجت ابن الجيران وقررا أنهما سئما حياة القرية وأرادا اكتشاف العالم. ووجد زوجها عرض عمل في دبي وكان الانتقال.
أخبرتني صديقتي بأن هذه النقلة نقلتها ليس فقط جغرافيا بل وتاريخيا وفلسفيا لتعلمها حقائق جديدة عن الحياة. فقد كانت دائما تتمنى أن تنشئ أطفالها في جو «صحي» كما كانت تصفه - يكون بعيدا عن تأثيرات العائلة ومراقبة العيون الفضولية في القرية وتتمنى أن تتاح لهم حرية التحرر من قيود الحياة في مكان يعرفهم فيه الجميع.
ولكنها بعد عدة سنوات وبعد أن كبر أطفالها شعرت بالندم فقد اكتشفت بأن أطفالها الذين نشأوا في مكان منفتح جدا على الحضارات الأخرى بجميع أنواعها يعودون من المدرسة حاملين ليس فقط للصفات الجيدة الناتجة عن حياتهم في مكان يجمع مختلف البيئات - بل ولصفات سيئة كثيرة لم تكن تفكر فيها أبدا - فاكتشفت بأن أطفالها يكذبون فهم واثقون أن أمهم لن تعرف الحقيقة بسهولة إذا هربوا من تمرين الرياضة ليذهبوا إلى مكان آخر. واكتشفت أن أطفالها أصبحوا فاقدين لهويتهم الوطنية والدينية فيقولون لها إنهم لايشعرون بأنهم إيطاليون ولا يؤمنون بالوطنية ويسخرون من معتقداتها الدينية ومن ممارستها. وليس لديهم أي إحساس بالانتماء الأسري فلا يحبون زيارة جدهم وجدتهم وكانت تتحسر وهي تحكي لي كيف أن أجمل أوقات حياتها هي كانت تلك التي تقضيها مع جدها وجدتها التي تحب الطبخ ككثير من الجدات الإيطاليات فتمضي ساعات طويلة بالمطبخ تعلمها كيفية تحضير الباستا والحلويات، ولكن ابنتها اليوم لا تطيق زيارة جدتها مهما فعلت الأخيرة لتتقرب منها.
قالت لي بأنها ندمت كثيرا على قرار تركها للقرية وأن الانفتاح الذي كانت تتمناه على العالم لم يعطِ نتائج إيجابية ولم يكن بيئة جيدة لتربية الأطفال في مكان يجمع الصالح والطالح من مختلف الثقافات. فكل أفكارها عن تنشئة جيل يعايش العولمة قد باءت بالفشل فأطفالها على العكس تعلموا العنصرية فقد رأوا كيف أن الأوروبيين يتمتعون بمميزات لا يتمتع بها الكثير من الشعوب الأخرى حولهم وأن فئات المجتمع المسخرة لخدمة الآخرين تأتي من أماكن أخر منكوبة بالفقر والجهل في العالم. وبدلا من أن يتعلموا الاعتماد على النفس تعلموا التنبلة والاعتماد على الخدم، كما أصبحوا لا يقدرون قيمة المال فكلما أشترى أحد أصدقائهم شيئا غاليا يريدون مثله وعلى الأب والأم الرضوخ وإلا. والأدهى هو فقدهم لأي هوية أسرية أو وطنية أو دينية.
فكرت في كلامها كثيرا يومها. فما قالته ينطبق على جميع الثقافات والحضارات. فأخلاقيات القرية أو المدينة الصغيرة مختلفة تماما عن أخلاقيات المدن الكبيرة الكوزموبوليتانيه. كنا ونحن صغار مثلا نسمع الأجداد يحكون أن أيام زمان كان الناس يعرفون بعضهم ولذا فقد كان الطفل أو المراهق ينشأ على مبدأ أنه جزء من كل، فيفكر ألف مرة قبل أن يغلط فبالتأكيد سوف يصل الخبر إلى أهله عاجلا أم آجلا. فمن يهرب من المدرسة سيكشف وسيجد من يشي به إلى أهله ليخبرهم أين ذهب ومع من. ولم يكن أحد يتجرأ على مضايقة فتاة في الحي مثلا فسمعته وسمعة عائلته تهمه كثيرا. وكان الصغير يحترم الكبير ويقدره ليس من خوف دائما بل من إحساس بالانتماء فالكبير يحميه ويعطف عليه. كان شعور الفرد بالهوية الوطنية والدينية عاليا لأنه جزء لا يتجزأ من هويته كفرد له تعريف وقبول في ذلك المجتمع. وكان شعور الفرد بالانتماء إلى أسرة وحي معين يعطي الإنسان ثقة وفي نفس الوقت يتطلب منه مسؤوليات معينة تتوافق مع روح الجماعة واحترامها.
أجمل الحوارات تلك التي تكشف لك شيئا لم تكن تعرفه عن نفسك: فقد اكتشفت أصدقائي بأنني أتمنى أن أعيش في قرية صغيرة فقد سئمت حياة المدن.