حينما أعلنت السعودية عن عملية "عاصفة الحزم" في شهر مارس 2015 كانت تؤسس لمرحلة مغايرة في سياستها تجاه اليمن، فالرياض بدت مدفوعة بشكل أو بآخر لتبني الخيار العسكري في التعاطي مع تنامي نفوذ الحوثيين داخل اليمن، لاسيما أن هذا الأمر يعني الإصطدام بأحد محددات السياسة السعودية بالمنطقة والمرتبطة بطبيعة التنافس الإقليمي بين الرياض وطهران.
ومن ثم، دخلت المملكة الصراع من منظور ثنائية السنة والشيعة، وهو ما يعني عدم إمكانية السماح بوجود حكومة شيعية متحالفة مع إيران علي حدودها الجنوبية. وهكذا بدت الرؤية السعودية للصراع محفزا جوهريا لاستمرارية العملية العسكرية ضد الحوثيين وحلفاءهم المحسوبين علي الرئيس السابق علي عبد الله صالح ليؤدي ذلك إلي إضفاء المزيد من التعقيدات علي الصراع، وبالتبعية إدخال تغيرات علي الاستراتيجية السعودية تجاه الصراع اليمني والتي بدت جلية بعد معركة استعادة عدن ضمن عملية السهم الذهبي التي تم اطلاقها في الـ14 من يوليو 2015. دوافع التحول السعودي أعلنت السعودية عن عملية عاصفة الحزم العسكرية يوم 26 مارس 2015 وتشكيل تحالف استعادة الشرعية في اليمن، وقد حددت الرياض أهداف العملية العسكرية بتقويض نفوذ الحوثيين وإنهاء سيطرتهم علي مقاليد السلطة داخل اليمن، واستعادة شرعية الرئيس عبد ربه هادي منصور. ومن ثم استهدفت الضربات الجوية التي نفذتها المملكة وقوات التحالف تدمير الصواريخ الباليستية ووسائل الدفاع الجوى ومخازن الذخيرة والأسلحة التي يسيطر عليها الحوثيون وحلفاءهم بصورة تقلل من إحتمالية تعرض الأراضي السعودية للتهديدات الحوثية. لقد استندت السعودية - وفقاً لهذه الصيغة - لاستراتيجية عسكرية أحادية تقوم بشكل منفرد علي الضربات الجوية، علي إعتبار أن مثل هذه العمليات كفيلة بتنفيذ الأهداف السعودية، ولكن بمرور الوقت بدا أن هذه الاستراتيجية لم تؤثر كثيراً علي وضعية جماعة الحوثيين وحلفاءهم، ناهيك عن الإشكاليات التي استدعتها، الأمر الذي دفع الرياض إلي البحث عن مسار عسكري آخر لا يقتصر الهجمات الجوية للتحالف، ولكنه يشمل عناصر مقاتلة علي الأرض تابعة لحكومة عبد ربه منصور. وقد ارتبط الإنتقال السعودي إلي هذا المسار بعدد من الدوافع تتمثل فيما يلي، 1) تكلفة التدخل البري، فمع بداية عملية عاصفة الحزم ظهرت إتجاهات ترى عدم إمكانية تحقيق هذه العمليات أهدافها بدون التدخل العسكري البري، وهو الخيار الذي يبدو تكلفته مرتفعة بالنسبة للرياض ولا يمكن لها أن تغامر بقواتها للقيام بهذه المهمة منفردة، ناهيك عن عدم استعداد الدول الآخري في التحالف للقيام بهذه المهمة، وقد عزز من صعوبة هذا المسار موقف البرلمان الباكستاني الذي أقر في شهر إبريل 2015 مشروع قانون رافض لمشاركة قوات باكستانية في الصراع الدائر باليمن. ونتيجة لهذه المعطيات، أدركت السعودية عدم إمكانية الإعتماد علي طرح التدخل البري الخارجي، ومن ثم، لجأت إلي دعم المقاومة الشعبية والقوات الداعمة لحكومة عبد ربه منصور كبديل يمكن من خلاله المواجهة العسكرية البرية مع قوات أنصار الله (الجناح العسكري للحوثيين) وعبد الله صالح. 2) النفوذ الحوثي، فخلال الشهور الماضية بدا أن الهجمات الجوية التي نفذتها السعودية ودول التحالف لم تحقق الكثير من أهدافها لاسيما مع استمرار السيطرة الحوثية علي مناطق عديدة داخل اليمن (وأهمها العاصمة صنعاء)، وذلك في الوقت الذي كانت شبكة تحالفات الرئيس عبد ربه منصور غير قادرة علي الإضطلاع بدور موازن للنفوذ الحوثي، ولا يمكن إغفال أن هذه المعطيات كانت سببا في إخفاق محادثات جنيف التي عُقدت في شهر يونيو 2015، وبالتالي رفض الوفد الحوثي الإعتراف بقرار مجلس الأمن رقم 2216 الذي يعترف بشرعية حكومة الرئيس اليمني عبد ربه منصور، ويطالب الحوثيون بسحب قواتهم من جميع المناطق التي استولوا عليها بما في ذلك العاصمة صنعاء. 3) التهديدات الممتدة، بالرغم من إعلان السعودية خلال شهر إبريل 2015 عن الشروع في عملية إعادة الأمل بعد نجاح عملية عاصفة الحزم في تحقيق أهدافها وتدمير الترسانة العسكرية للحوثيين، وصواريخ أرض أرض التي يمتلكونها، فضلاً عن تأمين الحدود السعودية مع اليمن؛ فإن التهديدات التي يمثلها الحوثيون للسعودية كانت لا تزال قائمة، وقد دلل علي هذا الأمر سلسلة الهجمات الحوثية التي استهدفت الأراضي السعودية، وكان من أهمها إطلاق صواريخ سكود علي قاعدة خميس مشيط جنوب السعودية يوم 6 يونيو 2015، وفي الشهر ذاته، تصدت القوات السعودية لهجوم بري من جانب مجموعات موالية للرئيس السابق عبد الله صالح وجماعة أنصار الله شمل عدة محاور بمنطقتي جازان ونجران، وهكذا فقد دللت هذه الهجمات وغيرها علي استمرارية القدرات العسكرية للمليشيات الحوثية والكفيلة بنقل الصراع إلي داخل الأراضي السعودية. 4) تردي الأوضاع الداخلية، حيث إن استمرار الهجمات الجوية المنفردة دون إحداث تغيرات جوهرية في معادلة الصراع كان له تكلفته الباهظة علي الداخل اليمني، فمن ناحية تدهورت الأوضاع الإنسانية كثيراً، وهذا ما عبرت عنه الأمم المتحدة مؤخراً حينما ذكرت أن اليمن في حاجة إلي مساعدات تُقدر بـ 1.6 مليار دولار للتعاطي مع الأوضاع المتدهورة التي خلفها الصراع الجاري. من ناحية آخرى، فقد ساهم الصراع في تعزيز تواجد تنظيمي القاعدة والدولة الإسلامية (داعش) داخل اليمن، فتنظيم الدولة الإسلامية أعلن عن تواجده من خلال التسجيل الصوتي الذي تم نشره علي شبكة الإنترنت خلال شهر نوفمبر 2014 بعنوان "البيعة اليمنية للدولة الإسلامية"، وبموجب التسجيل قام تنظيم يطلق علي نفسه "مجاهدي اليمن" بمبايعة تنظيم الدولة الإسلامية. وتبني التنظيم مؤخراً الهجمات التي استهدفت أماكن تابعة للحوثيين. أما تنظيم القاعدة فقد يكون الرابح الأكبر مما يجري حالياً داخل اليمن، إذ أن التنظيم دعم تواجده في عدد من الجبهات مثل المكلا وبعض مناطق أبين وشبوة وحضرموت. ومثل هذه الأوضاع (في حال استمرارها) سيكون لها إنعكاسات مستقبلية علي السعودية وخاصة أن تنظيم القاعدة ظل لسنوات يري في اليمن الجبهة التي ينطلق منها إلي الداخل السعودي. دلالات عملية السهم الذهبي تشكل الدوافع السابقة المدخل الأساسي لتفسير الإعلان عن عملية السهم الذهبي في 14 يوليو 2015 لاستعادة مدينة عدن وإنهاء سيطرة مليشيات الحوثيين والرئيس السابق عبد الله صالح علي المدينة، فالعملية التي إنتهت بتأكيد الحكومة اليمنية في 17 يوليو 2015 تحرير عدن بشكل كامل تنطوي علي دلالاتين رئيسيتين متصلتين بالدور السعودي في الصراع، وهما : الدلالة الأولى: أن العملية تأتي في سياق الاستراتيجية العسكرية السعودية الجديدة التي تمزج بين الهجمات الجوية والقوات المنتشرة علي الأرض، حيث أن العديد من العناصر العسكرية اليمنية التي شاركت في عملية تحرير عدن كانت قد تلقت تدريبات في السعودية وقامت المملكة بإمدادها بأسلحة متطورة، وبالتزامن مع الاشتباكات التي قامت بها هذه القوات مع المليشيات الحوثية، كانت المقاتلات السعودية (ومقاتلات التحالف) توفر غطاء جوي للقوات، وتعرقل التعزيزات القادمة للحوثيين من المناطق الآخري مثل تلك التي كانت قادمة من البيضاء وأبين، علاوة علي الدعم العسكري النوعي المتمثل في عملية إنزال مظلي لأسلحة متنوعة تضمنت آر بي جي وصواريخ "لو" بنوعيها الموجهة والمحمولة لتدمير الدروع والدبابات. الدلالة الثانية: وهي ترتبط بتوقيت عملية السهم الذهبي وتزامنها مع التوصل لإتفاق بين الغرب وإيران بشأن برنامجها النووي، فالرياض تري دورها العسكري في اليمن ومواجهتها مع الحوثيين الشيعة كجزء من صراعها الإقليمي مع إيران، ومن ثم أرادت عبر عملية تحرير عدن إرسال رسالة لطهران مفادها أن الإتفاق لا يعني إطلاق يدها في شؤون المنطقة، وقد عبر عن هذا الأمر تصريحات وزير الخارجية السعودي عادل الجبير يوم 16 يوليو 2015 بأنه "إذا حاولت إيران التسبب في مشاكل في المنطقة، فإننا ملتزمون بمواجهتها بحزم". وفي هذا السياق يرجح أن يُحدث تحرير عدن تحولاً جوهرياً في ديناميات الصراع اليمني، ومن المحتمل أن يستمر الدور العسكري السعودي الراهن وبالتالي تعزيز التنسيق بين المملكة والقوات اليمنية البرية، إذ أن الإنتصار السريع الذي تحقق في عدن قد يحفز الرياض وحلفاءها اليمنيين للتوسع في المواجهات العسكرية والسعي لاسترداد محافظات جنوبية آخري مثل لحج وأبين والضالع. مستقبل الدور السعودي بعد عدن بيد أن هذا المسار العسكري سيظل محكوماً بسقف تفاوضي في نهاية المطاف ولن يكون الغرض منه القضاء نهائياً علي المليشيات الحوثية، بمعني آخر سيكون الهدف من العمليات العسكرية في المرحلة القادمة إرغام الحوثيين علي التفاوض. ويدعم هذا السيناريو عدد من العوامل يمكن إختزالها فيما يلي، أولاً) بعيداً عن الأهداف المعلنة في بداية عملية عاصفة الحزم والتي يبدو أنها أصبحت صعبة المنال، فإن تحقيق إنجازات فعلية وتقليص السيطرة المناطقية للحوثيين وعبد الله صالح تمنح للنظام السعودي مزايا أهمهما الترويج لصورته كفاعل إقليمي رئيسي، حيث إن أهم ما يشغل الرياض في اللحظة الراهنة ألا تكون في وضع محرج، ولا تخرج منهزمة كلياً من صراع مع مليشيات مسلحة. وعطفاً علي هذا، فإن عودة الحكومة اليمنية إلي عدن والاسترداد المستقبلي لمناطق آخري سيعطي الحكومة اليمنية بزعامة عبد ربه منصور أفضلية ووضعية تفاوضية أفضل مقارنة بتلك التي كانت حاكمة لمفاوضات جنيف في شهر يونيو الماضي. ثانياً) ثمة جانب آخر في هذا الإطار سيرجح من إحتمالية التفاوض المستقبلي وهو متصل بالتمايزات بين شمال وجنوب اليمن، فعدن تقع في جنوب اليمن وهى من المناطق التي لا يوجد بها حاضنة مجتمعية للحوثيين، وهو ما ساهم في نجاح عملية السهم الذهبي، وهذا الصورة ستختلف كثيراً في الشمال حيث يتزايد التواجد الحوثي. وبالتالي قد تصبح العمليات العسكرية أصعب وتكلفتها أكبر. ناهيك عن أن استمرار الصراع أكثر من اللازم سيؤدي إلي المزيد من الأوضاع الكارثية وقد يستصحب معه إثارة مطالب إنفصالية في الجنوب، وتراجع قدرة الرياض علي السيطرة علي القوات اليمنية الحليفة وخاصة أن هذه القوات تتكون من فصائل مختلفة ولها أهداف متباينة. ثالثاً) يمكن أن تؤدي عملية تحرير عدن إلي تعديل في رؤية الحوثيين ومليشيات عبد الله صالح لطبيعة الصراع، فخلال الشهور الماضية ظل الحوثيون يعولون علي أفضليتهم الميدانية بصورة أدت إلي إخفاق محادثات جنيف. بيد أن هذه الأفضلية باتت (عقب تحرير عدن) معرضة للتقويض وهو ما سيدفعهم إلي البحث عن التهدئة والمسار التفاوضي في محاولة لتحقيق بعض المكاسب. ولعل دعوة عبد الله صالح لإيقاف الحرب من خلال البيان الذي نشره عبد الله صالح يوم 16 يوليو 2015 علي الفيس بوك مؤشراً علي إحتمالية حدوث تغير في رؤية معسكره للصراع. رابعاً) قد يجعل الإتفاق النووي الذي أبرمته إيران مؤخراً مع الغرب طهران أكثر رغبة في تسوية المشكلة اليمنية، بحيث تكرس لدور جديد لها بالمنطقة كحليف للغرب يساعد في تسوية الأزمات الإقليمية، فضلاً عن ذلك فقد توظف واشنطن ورقة الإتفاق النووي في إقناع طهران بالضغط علي الحوثيين للإنتقال إلي المسار التفاوضي كآلية لتسوية الصراع. وخاصة أن مثل هذا الأمر في حال حدوثه لن يعني خروج إيران من المعادلة كطرف خاسر كلياً، فهي علي أقل تقدير ستضمن الإبقاء علي الحوثيين في المشهد السياسي اليمني بشكل رسمي. بقلم محمد بسيوني