2023/01/29
ما قصة المقهى الشعبي الذي اخترعه المسلمون وقلّده الأوروبيون ونشره الأميركيون؟

بين حميمية البيت المطلقة، وغربة الخارج الكاملة، يمتد المقهى كمكان. فتمثل مساحته الصغيرة فضاء رحب يتسع للجميع، ونافذة مفتوحة على الزمن تستقبل رياح تغييره وتتأقلم معها. فالمقهى الشعبي الذي تجلس إليه في نهاية يوم طويل من العمل، أو ذاك الغربي الذي تزوره في عطلة نهاية الأسبوع مع الأصدقاء، قد قطع رحلة طويلة تمتد لخمسة قرون حتى وصل إليك. وفي تلك الرحلة، سافر عبر جغرافيات عدة في بلاد كثيرة، تأثر بثقافتها وامتزج بها، وترك أيضًا بصمته عليها. 

 

وقد ولدت ثمار القهوة، مثل أي ثمار، في الهواء الطلق، وظلت تنمو لحقب لا يعلم مداها أحد دون أن يعرف أي شخص عن مفعولها وطعمها السحريين شيئًا. وتقول الأسطورة إن مزارع صغير قد لاحظ يومًا اليقظة والنشاط التي تبثها شجرة غريبة في عنزاته عندما تتناولها، فتجرأ هو أيضًا وجربها، لتترك داخله حيوية لم يعهدها من قبل. فأسرع يخبر أبناء القرية عنها، وصاروا جميعًا يدأبون على تناولها. لا نعرف أين أو متى وقع هذا، لكن الأكيد أن القهوة قد زُرعت للمرة الأولى في إيثوبيا، دون أن يرتبط تناولها بمكان بعينه. أما المقهى، ففتح للمرة الأولى أبوابه على العالم، وبدأ رحلته المستمرة حتى اليوم، من بلاد العرب. 

 

بداية المقهى في العالم الإسلامي: فضاء بديل 

 

ليس من قبيل المصادفة أن القهوة كمشروب، و"القهوة" كمكان يتشاركان الاسم نفسه في معظم اللغات. فعلى عكس المشروبات الأخرى الشائعة في ذلك الوقت، كان من العسير تحضير القهوة في البيت. فحتى تتحول ثمرة القهوة لمشروب، عليها أن تمر بمراحل عدّة من تجفيف وتحميص وطحن، تحتاج لمعدّات خاصة لا تتوفر عند كل شخص. لم يكن من الصعب على الأثرياء وعلية القوم أن يخصصوا في بيوتهم غرفة لإعداد واحتساء المشروب، أما بالنسبة لعامة الشعب، فذلك لم يكن ببساطة متاحًا. من ثم، نشأ المقهى ليحل تلك المشكلة، فهناك، يستطيع أي شخص، غني أو فقير، أن يحتسي القهوة. لكن ما بدأ كمكان مخصص لتناول مشروب رائج، سرعان ما تجاوز هذا الغرض البسيط بكثير. 

 

في الوقت الذي دخلت فيه المقاهي للعالم العربي، كان الفضاء العام شبه مقتصر على المساجد. فلتحريم الخمر، لم يكن يوجد في بلاد الإسلام حانات مثلما يوجد في بلاد الغرب، ولم تكن المطاعم أيضًا شائعة في ذلك الوقت، ومن ثم، كان المسجد المكان الوحيد تقريبًا الذي يتقابل فيه العامة ويتبادلون الحديث خارج نطاق البيت. لكن المساجد في نهاية الأمر هي بقع مقدسة لا يستحب الحديث داخلها عن الشئون اليومية. ونظرًا لأن المنازل كانت مغلقة على الأهل فقط، لم يكن من المقبول في المجتمعات العربية قديمًا استقبال الغرباء في البيت. وهكذا، أمام فضاء عام محدود للغاية، جاء المقهى ليسد فراغ حقيقي. 

 

فلقاء ثمن قليل، تستطيع الجلوس ومشاركة الأصدقاء الحديث والسمر لساعات طوال. وعلى عكس المساجد، لا يوجد محاذير هنا في الكلام، يمكنك الحديث عن أي شيء شئت، من تفاصيل ومواقف يومية صغيرة، لأفكار وتساؤلات عميقة. انساب الحديث بحرية وسلاسة بين الأصدقاء، ولم يمر وقت طويل قبل أن ينعطف ليشمل السياسة وانتقاد الحكام. 

 

يقول عن هذا الباحث مارك بندرجاست: " لم يكن هنالك أماكن كثيرة يستطيع فيها الناس، من كافة طبقات المجتمع، اللقاء والحديث. ومن ثم، بدت المقاهي أماكن غريبة لم ير أحدًا لها مثيل من قبل. رأى فيها البعض منبع للرذيلة، للغواية، للثورة، ولأسباب جيدة. ففي واقع الأمر، يتحدث الناس عن السياسة بلا شك في المقاهي". 

 

انتشرت المقاهي في البلاد الإسلامية انتشار فاق التوقعات، فبحلول عام 1623، كان في إسطنبول وحدها 600 مقهى. أقض هذا الانتشار مضاجع السُلطات. فمثلت كل تلك المقاهي بالنسبة إليهم بؤر، على أقل تقدير، لانتقاد الحُكام والتعبير عن الاستياء الشعبي الذي قد يتحول، على اسوء تقدير، لانقلابات وثورات. من هنا، اتخذ السلاطين والحُكّام من الدين غطاء شرعي يحرمون من خلاله احتساء القهوة، التي عدها بعد الفقهاء حرام كالخمر، ويوجبون اغلاق المقاهي، التي بدأت، بُعيد انتشارها بقليل، تاريخها مع المنع؛ فقد أتي أول قرار رسمي بإغلاق المقاهي عام 1511، على يد حاكم مكة، بعد أن وصلت لأسماعه الأشعار التي انطلقت تهجوه منها. لكن القرار سرعان ما أبطله والي القاهرة، الذي كان مغرمًا بشكل شخصي بالقهوة. وبعد أن عرف العرب القهوة بحوالي قرنين، سافرت حبوب البن لأوروبا، ليبدأ فصل جديد في تاريخ المقاهي بجزء آخر من العالم. 

 

من العالم الإسلامي، سافر المقهى لأوروبا، وارتبط منذ بداياته بعوالم الثقافة والفكر. فكان في أوكسفورد أن فتح أول مقهى في بريطانيا أبوابه، وصارت المقاهي بمثابة "جامعات رخيصة". فلقاء قرش واحد، تستطيع الجلوس والتمتع بفنجان قهوة يصحبه نقاشات ثرية حول كل شيء في العالم. 

 

صحيح أن المقاهي لم تكن أول حيز يشغل الفضاء العام في أوروبا، فقد سبقته الحانات بقرون، لكن عوضًا عن الأحاديث السطحية والهلوسات التي تغلب على من أن أسكرتهم الخمر في الحانات، جاء المقهى ليمثل مكان تطفو فيه النقاشات الثرية بين عقول تزيدها حبوب القهوة يقظة. ومن ثم، عدّ بعض المفكرين القهوة في تلك الفترة بمثابة مضاد للخمر، جاءت لتوقظ الأوروبيين من سكرتهم الطويلة. 

 

يقول عن هذا الكاتب ستيفن جونسن: "كان تأثير انتشار القهوة في أوروبا في القرن السابع عشر قويًا للغاية، فحتى ذلك الوقت، كانت أكثر المشروبات انتشارًا، حتى على الفطور، هي الخمر والجعة. وأولئك الذين استبدلوا القهوة بالخمر بدأوا يومهم في يقظة ونشاط، وتخلصوا من حالة الارتخاء والسُكر، ومن ثم تحسن أدائهم في العمل كمًا وكيفًا. بدأت أوروبا الغربية حينئذ تستيقظ من حالة الثمالة التي سيطرت عليها لقرون". 

 

وقد شجع على هذا الاعتقاد تزامن انتشار المقاهي في أوروبا مع عصر النهضة، التي لعبت المقهى فيه دور ليس بالصغير بلا شك، حيث كانت مكان لقاء المفكرين وجلوسهم المفضل. فقد اتخذ أدباء ومفكرون على غرار فولتير وألكسندر بوب وجون درايدن من المقاهي مكاتب لهم، وكان لموسيقيين مثل فاغنر غرف خاصة في المقاهي اعتادوا تأليف الموسيقى فيها. كما مثلت المقاهي ساحات حرة بعيدة عن انحيازيات المجتمع الطبقية، فيمكن لأي شخص من أي خلفية كانت الجلوس فيها والتعرف على آخرين. وقد أدى ذلك المناخ الحر لتفاعل أفراد من كافة الخلفيات مع بعضهم البعض، فنانون وعلماء وعُمّال، والخروج بأفكار ثرية ورؤية أكثر انفتاحًا للعالم. 

 

ولكن الأخطر من كل ذلك كان الدور السياسي الذي لعبته المقاهي. فقد كانت المقاهي إحدى أولى الأماكن التي بدأت الصحف توزع فيها بشكل دوري. وقد اعتاد رواد المقهى قراءة آخر الأخبار ومناقشتها مع بعضهم البعض، معبرين في أحيان ليست قليلة، عن سخطهم على السُلطات. وقد كان في مقهى دي فوي في باريس أن جلس الصحافي والمفكر السياسي كامي ديمولان في الثالث عشر من يوليو عام 1789 يخطط لاقتحام الباستيل، ما بدأ الثورة الفرنسية التي غيرت تاريخ أوروبا والعالم. ومن المقاهي أيضًا كان أن انطلقت ثورات 1848 في برلين والمجر وفينيسيا. 

 

كما لعبت المقاهي أيضًا دورًا ليس بالصغير بالنسبة للفن، فنظرًا للحرية التي سادت مناخها، ولانتشار جمهور مثقف بها، كان المقهى بمثابة منبر فني لعرض أحدث الابداعات، ومركز ثقافي للعواصم الأوروبية في القرن التاسع عشر. وليس أدل على ذلك من وقوع أول عرض سينمائي على الإطلاق في قبو مقهى الجراند كافيه بباريس، على يد الإخوين لوميير في الثامن والعشرين من ديسمبركانون الأول عام 1895. 

 

القهوة في أمريكا: منتج رأسمالي

لم يمر وقتًا طويل قبل أن تعبر القهوة المحيط الأطلنطي وتصل لأمريكا، وهنا، شهدت تغييرها الأعظم. ففي بلد الرأسمالية والحلول الاقتصادية، دأبت الشركات الضخمة على إيجاد طريقة تصير بها القهوة سهلة التحضير، لا تحتاج معدات خاصة، ومن ثم يصير توزيعها وبيعها أسهل للأفراد. 

 

لم تكن الولايات المُتحدة أول من اخترعت القهوة سريعة التحضير – حيث يتم ضغط حبيبات القهوة في أكياس صغيرة، ولا يحتاج الأمر أكثر من إضافة الماء إليها – لكنها كانت أول بلد تبنتها اقتصاديًا وانتجتها على نطاق واسع. صحيح أن الكثير من نكهة ورائحة القهوة كان يضيع في القهوة سريعة التحضير، لكنها ظلت حل اقتصادي وسريع بالنسبة للكثيرين. ومن هنا، بدأ تضافر القهوة مع الحياة اليومية، فصارت مشروبًا تلجأ إليه كلما شعرت بالحاجة لليقظة في البيت، أو تأخذ عبر إعداده راحة قصيرة من الضغوط في العمل. 

 

وبالرغم من انتشار القهوة سريعة التحضير انتشارًا واسعًا حول العالم، إلا أن هذا لم يسحب البساط من تحت المقهى كفضاء حر للقاء والحديث، ولا قلل من أهميتها بالنسبة للفنانين والمثقفين. فحول العالم، شرقًا وغربًا، ظل المثقفون يجلسون إلى المقاهي، حتى عُرفَت بعض المقاهي بالأدباء والفلاسفة الذين كانوا يترددون عليها. ففي فرنسا على سبيل المثال، دأب جان بول سارتر وسيمون دي بورفوار على الجلوس في مقهى لو دو ماجو، وفي مصر، اعتاد نجيب محفوظ الجلوس في مقهى الفيشاوي. 

 

وقد لعب المقهى الشعبي دورًا كبيرًا في حياة وأدب نجيب محفوظ، فيقول عنه الأديب: " يلعب المقهى دورًا كبيرًا في رواياتي، وقبل ذلك في حياتنا كلنا. لم يكن هنا نوادٍ، المقهى محور الصداقة. في البداية اتسع لنا الشارع، حتى تجرأنا على المقهى." 

 

وقد ظلت المقاهي في القرن العشرين تواكب تغيرات العالم السريعة، حتى صارت بمثابة مرآة وانعكاس لها. ففي أواخر القرن بعد هيمنة العولمة الاقتصادية والاقتصاد الأمريكي على العالم، وجدت سلاسل المقاهي الأمريكية، وعلى رأسها المقهى الشهير "ستاربكس"، طريقها لكل بقعة على وجه الأرض، وصارت تنافس المقاهي الشعبية والتقليدية. وفي أوائل القرن الحادي والعشرين، بعد دخول الانترنت، جاءت المقاهي السيبرانية (Cyber Cafe) لتوفر لك الدخول على الشبكة مع كوب قهوة لذيذ في آن معًا. واليوم، مع دورها التقليدي الذي ظلت تلعبه كفضاء رحب للقاء الأصدقاء، باتت المقاهي تلعب دورًا جديدًا. فأمام الاعداد المتزايدة من الموظفين الذين يعملون عن بعد (remote workers)، وذوي الوظائف المستقلة  ممن يشعرون بالسأم من قضاء الوقت كله في المنزل، توفر المقاهي فرصة ممتازة للعمل من أجواء مغايرة أقل رتابة خارج نطاق البيت. لتثبت المقاهي يومًا بعد آخر أنها مساحة واسعة وفضاء رحب، على استعداد دائم أن يتكيف مع كافة التغيرات التي يجرها اختلاف الثقافة من بلد لبلد، ومن زمن لزمن. 

 

 

تم طباعة هذه الخبر من موقع بوابتي www.bawabatii.com - رابط الخبر: https://bawabatii.net/news311859.html