الجمعة 26 ابريل 2024
ما الذي كان يفعله هارون الرشيد عندما يشتاق لجارية بعيدة؟
الساعة 12:56 مساءً
محمد المياحي محمد المياحي

هل كان هارون الرشيد، يملك القدرة على تصفح العالم مثلي، هل كان بمقدوره أن يشرب عصيرًا باردًا في الظهيرة، هل امتلك رفاهية الحديث مع أي صديق في أي وقت يريد، يفتح نقاش مع الغرباء، الإطلاع على أفكار جديدة كل يوم واستكشاف عوالم مختلفة أو التغزل بجميلة في أقصى الكوكب، هل امتلك صديقات جميلات مثلنا، يتأملهن هنا يحادثهن متى أراد يتبادل معهن الفكرة والنكتة وينشرن البهجة في حياته.

ما الذي كان يفعله حين يشتاق لجارية ما بعيدة، هل كان بوسعه مثلًا بعث رسالة لها بعد الساعة الثالثة فجرًا وترد عليه حالًا..ألم يكن الزمن لديه بطئيًا وخانقًا وفقيرا وما نستطيع نحن فعله في دقائق يحتاج هو شهور؛ كي ينجزه..؟ من هو الجدير بالسعادة إذًا، نحن أم هو..؟

إن أكثرنا تعاسة في هذا العصر يملك إمكانية للسعادة متجاوزة بملايين المرات لأثرياء الزمن المنصرم. في أشد لحظات بؤسي، إحساسي بالاختناق، أقول أحيانًا: إنني أملك إمكانية حياة لم يعشها حتى ملوك الزمن القديم، حتى وأنا أفكر بمصروف الغد، أظل أستشعر تفوقي الباطني عليهم، إن بحوزتي عوامل سعادة ما كانت متوفرة لأكبر أباطرة القرون الماضية..وإن التحدي أمامي هو كيفية تجديد إحساسي بما أملك؛ كي تستعيد الأشياء قيمتها وتمنحنى شعورًا بالسكينة.

لكن لماذا يبدو الكائن البشري في هذا الزمان، أكثر اضطرابًا أقل بداهة وأضعف ذاكرة..لماذا لم نعد نشعر بالسعادة، لم نعد نستشعر قيمة الأشياء المتوفرة معنا، نحن كائنات غريبة، ملولة، سرعان ما تفقد الأشياء قيمتها لدينا، وتعجز عن بث البهجة فينا، حتى تلك التي كنا نطمح لها ما إن نصل إليها يتلاشى أثرها داخلنا بالتدريج ثم بفترة قصيرة، نشعر أنها صارت باهتة ولم تعد قادرة على تحريكنا.

لقد فقدنا الاتصال بمنابع البهجة الخالدة في حياتنا، وصرنا مستعبدين بأشياء خارجة عنا، فقدنا قدرتنا على رعاية عالمنا الداخلي بعناية وتوجيهه نحو عناصر الثراء الحقيقي، نحو الأدب والفن والفكرة والمعنى. لقد أسهمت الحياة السوقية في تخريب قوة الروح وسحبها بعيدا عما يغذي صلابتها، صارت مشاعرنا سائلة وسريعة التقلب، وصار الإنسان الحديث أكثر هشاشة، أكثر فقرًا وقلقًا وأقل إحساسًا بالامتلاء.

من المؤكد أن ثمة حلقة مفقودة في هذه الحكاية، وأن نظام الحداثة قاصر عن رعاية كينونة الإنسان، أغرق حياته بالأشياء، وخلق بداخله حاجة قسرية ودائمة للإستهلاك، منحه إحساس وهمي بالقوة وجرده من حرية الاكتفاء.

أظننا بحاجة لتنشيط إحساسنا بقيمة الأشياء التي نملكها، يمكننا إعادة التحديق في أعماقنا، لجم حالة اللهاث المسيطرة على حياتنا؛ كي نجدد استشعارنا تجاه ما نملك، بهكذا نظرة، يستطيع المرء الحفاظ على عوامل سعادة ثابتة ونشطة في حياته، هذه ليست دعوة للزهد؛ لكنها محاولة لتهدئة الروح وتحريرها من مجاعتها الذاتية.

ما لم ستظل غواية الحياة الحديثة تستنزفنا، ستكبر المسافة بيننا وبين أعماقنا وكلما جذبتنا الأشياء خارجنا سيتضخم خواءنا، وسوف نواصل اللهاث طمعًا بالمزيد وكلما وصلنا ستولد الرغبة نحو غواية أخرى، ويزداد جوعنا، ثم نستمر في حركة دائرية مفرغة وتتوالد فيك رغبات جديدة ولن تهدأ حتى تسترخي على عتبات المقبرة.


إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
آخر الأخبار