الجمعة 19 ابريل 2024
الإسماعيليون في اليمن (9)
الساعة 03:28 مساءً
بلال الطيب بلال الطيب

عن نفي همدان الأول

بانتهاء الدولة الرسولية مطلع العام 858هـ / 1454م، ابتدأ عهد أصهارهم بني طاهر، وذلك بقيادة الأخوين المُجاهد علي بن طاهر، والظافر عامر الأول، سيطرا بصعوبة على المناطق الوسطى، والجنوبية، والغربية، واتخذا من مدينة رداع عاصمة لدولتهما. رغم كونه الأصغر، استأثر الظافر عامر الأول بالخطبة والسكة لنفسه، ليتنازل بعد ستة أعوام لأخيه الأكبر؛ خوفًا وحذرًا من مصير الدولة الآفلة (الرسولية)، تحاشى المُجاهد علي بداية عهده الدخول في صراع مع دولة الإمامة الزّيدِيّة، وحينما حاول الإمام الهادوي الناصر بن محمد غزو رداع 864هـ، وعاث فيها وفي ضواحيها نهبًا وخرابًا، تلافى التصادم معه، وسعى بكل الوسائل لمُصالحته، ولكن دون جدوى. عاود المنصور الناصر بداية العام التالي الهجوم على رداع، تصدى له المُجاهد علي ببسالة، صد زحفه، وأخذ عليه مدينة ذمار وضوحيها لعدة أشهر بغير قتال رجب 865هـ، وفي مدينة صنعاء وقف ذات الإمام خطيبًا مُحرضًا الناس على الجهاد، وقال فيهم: «هذا مذهب يريد أن يبطل مذهبنا، ويسعى في أرضنا بالفساد»، لتدور بين الجانبين حروب وخطوب يطول شرحها، كانت الغلبة في مُعظمها للطاهريين. كانت الإمامة الزّيدِيّة حينها في غاية الضعف، وكان الصراع بين الإمام الهادوي الناصر بن محمد، والإمام الحمزي المُطهَّر بن محمد المُتحالف مع الإسماعيليين على أوجه، عاود أنصار الأخير بتحريض طاهري غاراتهم الجنونية على صنعاء، فيما قام أهالي عرقب في منطقة الحدا بأسر المنصور الناصر فور مُغادرته حصن هران866هـ، ولولا ذلك الصراع والتنافس الزيدي - الزيدي؛ لتمكّن الإماميون من وراثة ملك بني رسول بكل سهولة ويسر. خلف المنصور الناصر عام أسره ولده محمد، ذو الـ 14 ربيعًا، وظلت صنعاء تحت حكمه، ليتحقق للطاهريين السيطرة عليها بطلب منه، نكاية بالإمام الحمزي، وليمنع وقوعها بيد الأخير وحلفاءه الإسماعيليين، وذلك في شوال من ذات العام، مُقابل 50,000 دينار سُلمت له على أن يبقى مُعتزلًا في قصره، إلا أنَّ تلك السيطرة الطاهرية لم تستمر سوى عامين ونصف العام. بقي الصراع بين الطاهريين ودولة الإمامة بين وشد وجذب، ليتمكن السلطان الطاهري الرابع عامر بن عبدالوهاب من السيطرة على صنعاء بعد محاولة فاشلة شوال 910هـ، والراجح أنَّ الإسماعيليين ظلوا إلى حدٍ ما بعيدين عن ذلك التنافس، ولم يرد ذكرهم إلا في أحداث محدودة كمُتحالفين مع الحمزات كما سبق أن أشرنا، وحين تصدر الإمام الهادوي يحيى شرف الدين المشهد جمادي الأولى 912هـ، عمل الأخير بعد أنْ استتب له الأمر على التنكيل بهم، وله معهم صولات وجولات سنستعرضها اختزالًا في السطور التالية. بقتلهم للسلطان عامر بن عبدالوهاب على تخوم مدينة صنعاء ربيع الآخر 923هـ، أنهى المماليك حقبة الدولة الطاهرية، وبخروجهم - أي المماليك - أواخر ذات العام من ذات المدينة، دانت صنعاء والمناطق المجاورة للإمام يحيى شرف الدين، فيما ظلت معظم المناطق الشمالية تحت سيطرة إمام صعدة الحسن المُؤيدي. في بداية العام 925هـ توجه يحيى شرف الدين شمالًا، أخذ عدد من المناطق من مُنافسيه آل المُؤيدي، وفشل في السيطرة على حص مُدَع بالقرب من ثلا، وكحلان عفار، وعِزَّان بالقرب من الأخيرة، وعاث في المناطق المجاورة قتلًا، وفسادًا، وقد انتهت تلك المُواجهات بصلح مُؤقت مع الحمزات، وعاد أدراجه - أي إمام صنعاء - مُستعدًا لجولة بل لجولات حاسمة. كان التحالف المُؤيدي الحمزي حينها في أوجه، نقض الأخيرون أواخر العام 927هـ صُلحهم مع الإمام يحيى شرف الدين، وتوجهوا بمُعاضدة من الإسماعيليين والمماليك جنوبًا، وقد نجح إمام صنعاء - كما أفاد كاتب سيرته - في صد زُحوفاتهم، حاصرهم في عمران مدة، حتى أذعنوا للسلم، ثم وقع معهم هدنة لستة أشهر، وبعد مرور عامين، وبعد عدد من المُناوشات، وقع معهم صلحًا آخرًا مُدته عشر سنوات، مُعترفًا هذه المرة بسيطرتهم على قاع البون، وجبل عيال يزيد. كمن سبقه من أئمة، صير يحيى شرف الدين نفسه مُدافعًا عن العقيدة، داعيًا أنصاره إلى قتال مُعارضيه الذين أسماهم بـ (البغاة، والطغاة، وأعداء الله)، رغم أنَّ أغلبهم كانوا من بني عمومته، ومن مُعتنقي مذهبه، واستباح تبعًا لذلك نفوسهم، وأموالهم، وكم من أرواح أزهقت، وقبائل هُجرت، وقُرى دُمرت، ومدن نُهبت، بذرائع واهية ما أنزل الله بها من سلطان. كان عداء الإمام يحيى شرف الدين الأكبر، وتنكيله الأشنع والأفظع في حق الإسماعيليين، الذين أسماهم بـ (الطائفة الغوية)، والمُنتشرين حينها في همدان الصغرى، ويريم، ونجران، وحراز، قام بالتنكيل بهم في مراحل زمنية متفاوتة، وبنفس التراتبية المكانية المذكورة، وقع في البدء مع كبيرهم الداعي حسين بن إدريس بن حسن بن الأنف صلحًا مُدته عشر سنوات رجب 929هـ، ليعلن بداية العام التالي حربه عليهم، ناقضًا لذلك الصلح. كانت همدان الصغرى وما جاورها من مناطق المحطة الأولى لتوجيه حملاته الغاشمة، توجه وولده الأمير المُطهر بعساكره المُتحفزة نحوهم، وبالقرب من مدينة ثلا قَدِم إليه عدد منهم باذلين الطاعة، وعنهم قال كاتب سيرته: «وتخوفوا صولة بأسه، وهجومه، فكانوا كالهر تقدم إشفاقًا على الأسد، فاستتابهم الإمام، فأظهروا التوبة عن جميع أفعال المفاسد، والبراءة عن كل اعتقاد فاسد». وفي الجهة الأخرى استولى الأمير المُطهر بعد معركة شرسة على حصن المُنَقَّب بالقرب من كوكبان رمضان 930هـ، وكان عدد القتلى الإسماعيليين فيه 25 قتيلًا، دفنوا على عجل في باحته، فلما علم والده الإمام بذلك، أمر بإخراجهم، وضرب أعناقهم؛ إرهابًا لمن استعصوا عليه في المناطق والحصون المُجاورة، كما أمر بتدمير ذلك الحصن، وجعله قاعًا صفصفًا. وعن تلك الموقعة وغيرها كتب الشاعر موسى بن يحيى بهران قصيدة طويلة مُتباهيًا بأفعال الإمام الطاغية وولده، ومنها نقتطف: فنقب الجيش عـن أهل المنقب كي يبدو لهم كل مكتوب ومحتجب وبالمُطهـر قـام النصـر وانتزعت مــن الطغام بيوت المال بالغلب من بعد قتـل ذريـع قـد أهـم بهم وبعد أسـر وذل غيـر مـحتسب استمر الإمام يحيى شرف الدين وولده الـمُطهر في محاربة الإسماعيليين في همدان الصغرى، والتنكيل بهم، واشترط على أكثرهم الخروج إلى حراز، واستولى على عدد من حصونهم سلمًا، وحرًبا، كبيت غفر، وحصن فدة، وقلعة طِيبة المُطلة على وادي ظهر جمادي الأولى 931هـ، وبيت ردم، وحصون بني مطر، وحصن حضور المصانع شوال 931هـ، وحصن منيف، وعطشان، وبيت نعم، وجربان. وفي بداية العام 934هـ توجه الأمير المُطهر شرف الدين جنوبًا لمحاربة الإسماعيليين، وبقايا الطاهريين، سيطر على حصن دمت، ثم حصن المقرانة، ثم رداع، وقبلها جبن، وفي الأخيرة نهب مكتبة السلطان عامر بن عبدالوهاب العامرة بآلاف المـُصنفات، كما أخرب خلال جولته تلك، التي استمرت أربعة أشهر عددًا من الحصون والقلاع، وذلك بعد أنْ قام بنهبها، وكان جملة ما نهبه من حصن المقرانة حمولة 200 جمل، وفي يريم قام بأسر الداعي علي بن جعفر أحد أشهر دعاة الإسماعيلية. بعد أكثر من 15 عامًا من الحروب والصراعات بينه وبين أخواله الحمزات، وآل المُؤيدي في صعدة، عزم الإمام يحيى شرف الدين على التوجه شمالًا، ولم يعدم المُبررات الدينية المُحفزة لذلك؛ فأهالي خولان الشام - حد توصيف كاتب سيرته - في جاهلية جهلاء، لا يدينون بشرع، ولا يعرفون من القواعد الإسلامية أصلًا ولا فرعا، واستثنى ذات المُؤرخ سكان مدينة صعدة، فهؤلاء حد توصيفه من أخيار الشيعة، ودعائم الشريعة، لولا أنْ تحكمت بهم الدول الظالمة - يقصد آل المُؤيدي، وغيرهم - وختم ذلك المُؤرخ المُتعصب تشنيعه بالدعاء إلى الله بأن يُنقذ هؤلاء من مهاوي الضلال، وأن يتفيأوا من الإيمان والهداية في أوسع ظلال. سيطر الإمام يحيى شرف الدين على صعدة صفر 940هـ، وغادر الحمزات ذات المدينة، وجيشوا من دهمه، ووائلة، ويام، ووداعة أكثر من 15,000 مُقاتل، وتحالفوا مع الإسماعيليين في نجران، ودارت بينهم وقوات الأمير المـُطهَّر في أواخر ذات العام معركة كبرى عُرفت بـ (واقعة المخلاف)، هزموا فيها، وسقط منهم 1,000 قتيل، وقد قام ذات الأمير بعد تلك المعركة وبأوامر من والده بحز رأس 600 أسير. بعد حروب وخطوب يطول شرحها، تخللها كثير من السلب، والنهب، والتشريد، وبعد عام هجري كامل من دخوله مدينة صعدة، تمكن الإمام يحيى شرف الدين من دخول مدينة نجران، وعن انتصاره ذاك قال كاتب سيرته: «وهذا الفتح من غُرر الفتوح المشهورة، وعظم المنوح المشكورة، فإنَّ أهله - يقصد سكان نجران - أهل عناد للأئمة، ومر على ذلك خلف عن سلف من هذه الأمة»، وقد استمر أهالي نجران وبالأخص الإسماعيليون منهم في المقاومة، حتى نكلت القوات الإمامية بعد ثلاثة أعوام بهم، وقتلت قائدهم يحيى الداعي. دانت مُعظم المناطق اليمنية للإمام يحيى شرف الدين باستثناء حراز معقل الإسماعيليين الحصين، وكان عددٌ كبيرٌ من أهالي همدان الذين تم نفيهم من قبل قد استقروا فيها، أرسل ذات الإمام بولده شمس الدين إلى تلك الجهة، وقد تمكن الأخير في إحدى المعارك من التنكيل بمعظمهم، قتلًا، وأسرًا، وتشريدًا محرم 944هـ، وقد مدحه لتصرفه السادي ذاك أخوه الكبير عبدالله بقصيدة طويلة، ومنها نقتطف: به قد أفنى الله بقية مــن طغى وأبطن في الإسلام ما ليس يظهر بقيـة هـمدان الطغـاة أزالـهم جـمـيعًا فمـا أبقى بـهم مـن مـخبر معاشر كانوا للضلالة معشرًا وهم لأصـل الكـفر والفخر معبر وما هي إلا أشهر معدودة حتى عاود الإمام يحيى شرف الدين تنكيله بالإسماعيليين، وأرسل ولده شمس الدين بـ 10,000 مُقاتل لذات الغرض، وقد أغدق - أي الإمام - على مُقاتليه الأموال الكثيرة نظير مُشاركتهم في حصار ما تبقى من معاقل الإسماعيلة في جبال حراز، وإلى ذلك أشار كاتب سيرته بالقول: «ثم أنَّ الإمام عليه السلام رأى الاستعانة من أموال المسلمين لهؤلاء الذين أبلوا في الجهاد، ولازموا القتال، وصابروا الجلاد، من الأجناد الإمامية في مُحاربة الباطنية، وحصارهم، واستئصال شأفتهم، وقطع أدبارهم». وحين يئس الأمير شمس الدين من فتح حصن مسار الحصين، والقضاء على من تحصن فيه من الإسماعيليين، لجأ إلى سياسة الـمُهادنة، واتفق معهم - أي الإسماعيليين - على مُغادرة ذلك الحصن، والاستقرار في تهامة محرم 946هـ، إلا أنَّ مُكوثهم في تلك الناحية - وفي مدينة زبيد تحديدًا - لم يستمر طويلًا، وقد حدد المُؤرخ النهروالي عددهم بالمئتين، وقيل أكثر، وكان لهم - كما أفاد ذات المُؤرخ - حضورًا لافتًا في الأحداث الآتية، مُساندين للدولة العثمانية. .. يتبع


إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
آخر الأخبار