الخميس 25 ابريل 2024
الإمامة وسيكولوجيا الخوف !!
الساعة 02:51 صباحاً
ثابت الأحمدي ثابت الأحمدي

 

نظرًا لكون النظرية الهادوية نظرية عنف وقتل وهدم وإرهاب، فقد انعكس هذا الأمر على النفسية المجتمعية بصورة مباشرة، بمعنى أنها قوضت السلم المجتمعي وطبعت الإنسان بطابع الحذر والريبة والشك من أخيه وقريبه، بحكم الصراعات الطويلة والحروب العبثية التي لم تتوقف، لأن الحروب تخلق من الأشرار أكثر مما تقتلُ منهم؛ بل إنها تعزز الدوافع الإجرامية لذوي الميول الإجرامية حين يجدون ميدانا للصراع يستعرضون فيه ميولاتهم ويفرغون فيه طاقاتهم العدوانية.

 

في المجتمعات المتسمة بالحروب تتكوّر الجماعات على نفسها، وتتحوصل على ذواتها كنوعٍ من الاحتماء بالنفس والدفاع عن الذات، بمن في ذلك الجماعة المعتدية نفسها حيث تعيش حالة من استشعار رد الفعل على الدوام من قبل الطرف المظلوم نفسه، كالمدين الذي ينتظر دائنه أي وقت، فالكيان الإمامي نفسه دوما ينظر لكل من عداه مصدر تهديد، فلا يمكن لقاتل نفس أن يهدأ مدى الحياة، يعش القلق بكل تفاصيله، فتجعله يتحوصل أكثر على ذاته، للاحتماء بأسرته.. بعِرقِه.. بسلالته.. بالكيان الذي يسيّج نفسه به، لا بالدولة الجامعة للكل، لأن النظرية أساسا ضد الدولة. من جهة أخرى تخلقُ هذه الحالة رد فعل آخر لدى الطرف النقيض، فتجد مجتمعًا كل عنصر فيه متربصًا بالآخر، وذلك من طبيعة الحروب نفسها التي خلقتها النظرية الفوضوية.

 

هذه الحالةُ طبعتْ النَّفسِيَّةَ اليَمنيَّةَ، سواء على الصعيد الشخصي أو الجمعي بطابعِ الحذرِ الدائمِ والتوجس المستمر من الآخر، ولم تكن العَلاقة الاجتِمَاعيَّةُ علاقةً طبيعيَّة في غالبها يغلبْ عَليْها الأمانُ والطمأنينةُ، كما كان عليه الأمر سَابقا قبلَ الإِسْلام مثلا؛ لذا لجأ النَّاسُ إلى الاحتماءِ بالطبيعةِ لقساوتها في حد ذاتها؛ حيثُ سَكنَ الشَّواهقَ الجبليَّة، فلا يكادُ يخلو شاهقٌ أو مرتفعٌ على طُول اليَمَنِ وعرضِه من بيتٍ أو آثارِ بيتٍ أو حصنٍ منيع لهذا السبب؛ بل لقد توارثوا البقاء فيها إلى اليوم على صعوبتها، مع أنَّ المكان الطبيعي للسُّكنى في المنبسط من الأرضِ أو الشطوط المطلة على الوديانِ، كما هو الشَّأن لدى كل الأممِ في شتى بقاعِ المعمورة. وظلت هَذِه العادةُ إلى اليَومِ راسخةً في الذهنيَّة العَامَّةِ، وفي نفسِ كل يمنيٍ، مع ما أصبحَ يمتلكه من مقوماتِ الدفاع عن نفسِه من السِّلاح الفتاك بالأعداء، ومع وجودِ الدَّولَةِ ولو في حدها الأدنى. إنَّها حالةٌ من الشُّعور بالخوفِ أو عدم الطمأنينة، تسكن أعماقَ أعْماقه، شَعرَ بذلك أم لم يشعر. ويبدو أنَّ التخلصَ منها أمرٌ بعيدُ المنال؛ لذا تُعتبرُ اليَمَنُ من أكثرِ الدول العَربيَّةِ توزعًا سُكانيا، فهِي تفوق مصرَ البلد الكثير السُّكان، في هَذا الجانبِ أكثر من الضعف تقريبًا لهذا السَّبب! ولم تكن ظاهرةُ حملُ السلاح الناري أو الأبيض إلا أحدُ أشكالِ وتمظهراتِ هَذا القلقِ الدائمِ، وضعف الطمأنينةِ، على الأقل لدى مناطقِ الشمال اليَمني وبعضِ مناطقِ الشَّرق منه![1]، ولطالما رأينا كثيرًا من أبناء القبائل يتمنطق "الجنبية" وخلف الجنبية سكين صغيرة، وعلى الحزام أيضا المسدس، ناهيك عن الكلاشينكوف على الكتف، في السوق، في الحقل.. في المدينة.. في الريف.. بل حتى في الجامع، وكأنما هو حالة طوارئ على الدوام؛ بل لقد ارتبط السلاح الأبيض على وجه التحديد بالشخصية وصار جزءا منها. كما أن بعضهم ينظر لذلك أنه من معالم اكتمال الرجولة..!!

 

إن هذه الحالة تعكس فيما تعكس نفسا متوجسة وقلقة على تفاوت بين الناس، هي في الواقع نتاج لعقود طويلة من الرعب الذي عاشه الناس جراء الحروب والصراعات، ومن يقرأ تاريخ الإمامة يجد تفاصيل ذلك بوضوح.

 

هذا الصراع المتوحش والطويل بسبب الهُوّة النفسية بين الحكام والمحكومين كان له الأثر السلبي المقيت فيما يتعلق بالعمل والإنتاج، إذ تتوقف آلة الإنتاج عن العمل في المجتمعات التي تحصد النزاعاتُ الأهلية والحروبُ الداخلية رؤوسَ أهلها، لأن الزارع أو المنتج ـ وفي أي مَجَال كان ـ لم يعد ضامنا نتيجة عمله، فقد تحصدها أسنة رماح الغازين والمتغلبين بلا وجه حق، فيكون التواكل والسكون سيد المشهد في المجتمعات غير المستقرة. وهَذا يؤثر بطبيعته على التراكم المعرفي بشقيه الكمّي والنوعي، وعلى الأجيال التالية أيضا، مثلما يؤثر على جيل الصِّرَاع نفسه، لأن الحَضَارة سلسلة متتالية من الثقافات والنشاط الذهني والبدني معا، وانقطاع حلقة واحدة في السلسلة أو ضعفها يؤثر عَليْها كاملة، إذ إن قوة السلسلة تقاس بأضعف الحلقات فيها. وإلى هذا المعنى أشار الشاعر الحكيم زهير بن أبي سلمى في معلقته الشهيرة بالقول:

 

وَمَا الحَـرْبُ إِلاَّ مَا عَلِمْتُمْ وَذُقْتُـمُ وَمَا هُـوَ عَنْهَا بِالحَـدِيثِ المُرَجَّـمِ

مَتَـى تَبْعَـثُوهَا تَبْعَـثُوهَا ذَمِيْمَـةً وَتَضْـرَ إِذَا ضَرَّيْتُمُـوهَا فَتَضْـرَمِ

فَتَعْـرُكُكُمْ عَرْكَ الرَّحَى بِثِفَالِهَـا وَتَلْقَـحْ كِشَـــــافاً ثُمَّ تُنْتَـجْ فَتُتْئِـمِ

فَتُنْتِـجْ لَكُمْ غِلْمَانَ أَشْأَمَ كُلُّهُـمْ  كَأَحْمَـرِ عَادٍ ثُمَّ تُرْضِـعْ فَتَفْطِـمِ

 

وتعكسُ هَذِه القصيْدةُ "الشعبيَّة" طرفًا من تلك الحالةِ الفوضويَّة التي كانتْ عليها فَتراتُ الإِمَامَةِ الهادوية في غالبها، لشَاعرٍ غير معروف، تُفلسفُ دلالتُها طَبيْعَةَ الصِّراع، ونوع المواجهَة، وكيفيَّة التعاملِ معها من قبلِ العَامَّةِ الذين أصْبحوا مُدركين حقيقةَ كل تلك الصِّراعاتِ على جهلهم وبساطتهم، يقول ذلك القبيلي الذي سمع داعي الحرب:

حين قالوا: هيا شرق يا قبيلي قلت هيا مَره، قومي وهاتي صميلي

أصبحت بين دولتين أغتنمها شـوري اليَوم شــور، والقيــل قيلي

قبلما يسيروا يســــدوا علي ذاك يا صنـو لك، وهـــاذاك لي.. لي

وانت سر لك هناك واذبح وهات قات واعصدي يا مره، وزد يا قبيلي

أجرة العسكري والا باب سيدي القصب والحبوب وأدي حمولي

القلق إذن والصراع هو سيد الموقف كما تنبئ حروف هذه القصيدة، وكل إنسان هو مسؤول عن أمنه الشخصي وعن الحفاظ على حياته وحياة من يعول.

 


إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
آخر الأخبار