الاربعاء 24 ابريل 2024
عمران.. حكايات مُلملمة لتاريخ مُبعثر
الساعة 01:46 مساءً
بلال الطيب بلال الطيب

 من أول خطوة.. سكبت في دمي ألقها الفواح، وما أنْ اقتربت أكثر حتى التقت على مخيلتي حكايا عابرة انبعثت للتو من بين الأطلال، حينها ما عدت أرى فرقاً بين الحقيقة والخيال، رغم البون الشاسع بينهما. إنها عمران، جنة البون العامرة، تبوح بعبقها بلغة الكون الأزلية، وتتفضل على زائرها بنفس الدهشة والانبهار، وإن مر الزمن، للتاريخ فيها لون وطعم ورائحة وملمس أيضاً، تبعد عن صنعاء بحوالي 50 كيلومتراً، وتقترب منها منذ وضع التاريخ لبنته الأولى، وفي كل شيء، فالصناعة والعمران من أهم أسباب نمو الحضارات وازدهار الأمم. جبل الصريم اجتزنا همدان وقاعها الفسيح المطرّز بأشجار الفرسك المزهرة، والممتدة عن يمين وشمال، ليستقبلنا على سلسلة المرتفعات الصخرية التي تفصل ذلك القاع عن قاع البون جبل صلد بلون الفحم، أشفى رفيق رحلتي فارس محمد غليل السؤال، مستشهداً بقصة أصحاب الجنة الذين أعطاهم الله فبخلوا بالصدقة؛ فما كان من الله إلا أنْ جعل جنتهم كالصريم - كما أوردها القصص القرآني الذي لم يحدد المكان. والسؤال الذي أتمنى أن تروي الجهات المعنية غليله: لماذا لا توضع لوحة تعريفية بجبل الصريم؟ كما يحلو لي أن أسميه، مبتدأها نص الآية القرآنية التي تحدثت عن تلك الحادثة؛ فهي وعلى قسوتها دليل عابر لتاريخ غابر عاشته تلك المنطقة وما حولها يوماً ما. «تخيل أنَّ هذه المنطقة ستعود جنات كما كانت..»، قالها رفيق رحلتي وهو يشير إلى مزارع حديثة تحتضن بأسوارها منازل أصحابها المُكافحين. طيب والتراب..؟، هكذا استفسرت؛ فكان جواب فارس: «يُحمل فوق بوابير نقل كبيرة من قاع همدان..». ولد حينها هذا السؤال: تقصد من تلك الحفر التي مررنا بجانبها قرب الخط الاسفلتي..؟ قال رفيق رحلتي: «نعم»، وانتهى بجوابه ذلك الحوار، وهو جواب مُختزل لسؤال كتمته هناك في ذلك القاع الفسيح، حيث ينحت التراب كقطع صغيرة، كأنها تجتزئ من على كعكة ممتدة كامتداد البصر، وبعمق يتجاوز العشرة الأمتار تقريباً، وكما يقال في المثل الدارج: «لا قطع الله على آلف» - أي متعود - جاءت إجابة فارس طرية سهلة أمام مشهد لا أروع منه لحدائق غناء مُعلقة فوق الصخور. في الأفق بدت قمتا كوكبان وحصن ثلا من ناحية الغرب، كيدين تلوحان بالسلام من بعيد، بينما السيارة تمضي بنا الهوينا على الهضبة الصخرية المطلة على وجه مدينة عمران السحيق.. اقتربنا أكثر فأكثر، ومع نزولنا من تلك الهضبة تصاعدت المشاهد تباعاً، وأخذتنا المتعة، جاهداً حاولت نبش ذاكرتي في استعادة تفاصيل رحلتي الأولى إلى عمران قبل تسعة أعوام، وذلك أثناء تأديتي خدمة التدريس الإلزامي في إحدى مدارس مديرياتها المُتباعدة، فقد كبرت مبانيها، وتوسعت شوارعها بنظام بديع لم يخل بتقاسيم منازلها العتيقة التي فيها أوغل الزمن، وعليها تعاقبت الدهور. مدينة متباينة دخلنا مدينة عمران بسلام آمنين، وانقادت فيها خطانا سريعاً، وامتلأت فيها نفوسنا إعجاباً ورهبة، بذلك الامتزاج الفريد بين الإنسان والبيئة، وبذلك التناسق الممتع والتنوع الأليف في الحضور البشري والتاريخي والحضاري. عمران اليوم مدينة تبدو متباينة بعض الشيء بالنسبة لمبانيها القائمة، حيث تتكون من المدينة القديمة والمدينة الحديثة، وتوجد الأولى داخل الأسوار القديمة التي أنشئت لأجل حمايتها، أما الأخرى فهي خارج الأسوار. ما يهمنا هنا هو التعريف بالمدينة القديمة التي يعود تاريخ المباني القائمة فيها إلى العصور الإسلامية، فقد كانت هذه المدينة محاطة بسور من اللبن المخلوط بالتبن، وقد تعرض للاندثار، ولم يبق منه سوى بعض أجزائه وبوابتيه، إذ تقع الأولى في اتجاه الشرق، والأخرى في اتجاه الغرب، وعلى جانبي هذه الأخيرة يوجد برجان دفاعيان، كما لا زالت هناك بعض الأبراج في أجزاء متفرقة من السور كانت تستخدم لأغراض الحراسة والدفاع عن المدينة. مباني مدينة عمران مأخوذ لونها من لون الجبال والتراب، معظمها مبنية من اللبن خاصة القريبة من قاع البون، والتي تصل أدوارها إلى ثلاثة أو أربعة طوابق، وهناك أيضاً مبانٍ مبنية بالأحجار المهذبة، وهذه قريبة من الجبل، ويستخدم أهالي عمران الدور الأول من منازلهم مخازن ومطابخ، إضافة إلى مأوى للماشية، بينما تستخدم الأدوار العليا للسكن، وعادة ما تقيم عدة أسر في المنزل الواحد، وبتوصيف أكثر دقة لعائلة مكونة من الأب والأم والأبناء المتزوجين، كنوع من العادات الاجتماعية المتوارثة. تنتشر في مدينة عمران القديمة عدد من مباني اليهود، إلا أنَّ معظمها اندثرت بسبب مغادرة اليهود للمدينة، ولم يبق سوى القليل منهم، كما توجد في وسط المدينة بئر قديمة طويت جدرانها بحجر البلق المنحوت (البازلت النقاعي)، وتاريخها يعود تقريباً إلى فترة ما قبل الإسلام كما تشير طريقة البناء المحكم للبئر. ثراء أثري إن جهد الإنسان الذي بدأ في أكثر من مكان يفصح عن نفسه، يتلو للحياة تفاصيل الخلود، وروعة الإبداع لحكاية الطين والحجارة، وأخيراً الأسمنت، فعمران تحتضن اليوم أكبر مصانع اليمن من حيث إنتاج هذه المادة الهامة لكل عمران. وكما لعمران من اسمها نصيب، فإنَّ للتسمية سبباً أيضاً، يقول النسابون وفي مقدمتهم نشوان الحميري عن اسم عمران: إنه ينتسب إلى الملك الحميري الشهير ذو عمران بن ذي مراثد، وتعد معقلاً للقبيلة اليمنية المعروفة بـ (ذي مراثد)، حيث جاء ذكرها بصورة متكررة في النقوش القديمة التي عثر عليها، وتشتهر عمران بما حولها من المواقع الاثرية الغنية بمحتوياتها الأثرية المختلفة، حيث لا يخلو محل أو جبل من الآثار. ذكر المؤرخون نقلاً عن الحسن الهمداني أن من خرائب عمران مبنى يطلق عليه (قصر عمران)، وهو الذي تشغل خرائبه حيزاً كبيراً في وسط المدينة، والصحيح ما أثبته علماء الآثار حديثاً أن ذلك المبنى عبارة عن معبد كان مكرساً لإله قبيلة ذي مراثد الآنفة الذكر، أو كما تطلق عليه النقوش (ب ن و/ م ر ث د م) وهو الإله (المقه) - الإله الرسمي لدولة سبأ - ومعبده هذا كان أحد المعابد المنتشرة في أراضي عمران وبشكل أشمل في قاع البون وصنعاء وشبام كوكبان وغيرها من المناطق الواقعة إلى الشمال من صنعاء. كما تؤكد النقوش أن ذلك المعبد كان يحمل اسم (هـ ر ن)، ويتميز عن غيره من المعابد بالنسبة لطقوسه الدينية أن معظم المتعبدين يطلبون من الإله (المقه) أنْ يمنحهم الأولاد الذكور، والمفارقة العجيبة أن مدينة عمران من أكثر المناطق اليمنية من حيث نسبة الذكور، حيث يزيد عدد ذكورها عن إناثها بأكثر من 5000 نسمة حسب آخر تعداد سكاني، ولله في خلقه شؤون! إن تنوع المناخ في محافظة عمران بين معتدل صيفاً وبارد شتاءً، بالإضافة إلى تنوع تضاريسها بين جبال مرتفعة تتخللها الينابيع والعيون التي تجري مياهها في الأودية والسهول التي تحيط جميعها بقاع البون، الذي يتميز بأراضيه الخصبة التي يزرع فيها الحبوب والبقوليات وبعض الفواكه مثل الرمان والفرسك والسفرجل. كما أنَّ تلك المنطقة اشتهرت بزراعة أجود أنواع العنب اليمني، حيث تذكر بعض المصادر أنَّ ملوك سبأ والتبابعة والحميريين هم أول من صنعها أو أنتجها، حيث لا تزال معالم تلك المعاصر المنحوتة في الصخور موجودة في بعض الجبال المحيطة بمدينة ريدة القريبة من عمران. البون من أشهر القيعان اليمنية وأكثرها خصوبة، تطل عليه من جوانبه الأربعة سلسلة جبلية ترقد على قممها مواقع أثرية متميزة، وهي بحد ذاتها بحاجة إلى رحلات استطلاعية كثيرة لكشف مخزونها الطبيعي والحضاري. قبل أن أغادر عمران، استوقفني في تلك المدينة العامرة منظر غريب لأحجار عديدة عليها نقوش وكتابات قديمة، هي الآن - أقصد الأحجار - تزين واجهات عدد من المباني الجديدة، إضافة إلى تماثيل وألواح برونزية عليها نقوش مكتوبة وقطع أثرية أخرى جميعها من بقايا المعبد الآنف الذكر. وهو مشهد مؤلم يتكرر بكثافة في أغلب مدن محافظة عمران القديمة، والتي تحتضن في ترابها جزءًا كبيراً من تاريخنا وحضارتنا العريقة، وهذا وإن دل فإنما يدل على أنَّ هناك تقصير واضح من الجهات المعنية في حماية وتوثيق تلك الآثار، فالمال السايب - كما قيل - يعلم السرقة، وما قضية تهريب الآثار إلا انعكاس سلبي لذلك الفلتان. هذا أولاً، أما ثانياً وهو الأهم: ما تزال معظم كنوز عمران التاريخية مطمورة تحت التراب، حسب تأكيدات حصلت عليها من بعض سكان المنطقة، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: من يسبق في إظهارها للوجود، الجهات المعنية أم المهربون؟!


إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
آخر الأخبار