د. عبدالقادر الجنيد

 

سأل سائق السيارة عندما وصلنا إلى حاجز أمني أمام مدخل البرلمان:
"لا أدري إن كانوا سيسمحون لنا بالعبور؟"

أجابت نجوان: "أنا أعمل هنا".

ابتسمت في داخلي من نبرة الثقة والاعتداد بالنفس وربما حتى بالإحساس الفطري عندها بالسيطرة على الموقف.

وصلنا من مدينة كالجاري إلى إدمونتون عاصمة مقاطعة البرتا في اليوم السابق مع زوجها وطفليها ووالدتها (وكلهم يفضلون عدم الظهور)، تلبية لدعوة حضور احتفال أدائها للقسم في حفل خاص.

السفر من كالجاري إلى إدمونتون يستغرق ثلاث ساعات على طريق باتجاهين ينفصلان عن بعضهما بجزيرة خضراء، وفي كل جهة أربع حارات وكأن الطريقان نهران متدفقان بالسيارات في اتجاهين متعاكسين.
وعلى جانبي الطريق سهوب منبسطة بحقول خضراء مد البصر مزروعة بأنواع الحبوب المختلفة ومراعي أبقار تزود البلاد بشرائح لحم البرتا الشهيرة وتستطيع أن ترى أيضا مباني شركات ومعامل ومصانع وحتى حقول آبار بترول صغيرة وسط مروج خضراء وشعلات تحترق بلا توقف من معامل تكرير بترول أو  آبار استخراج غاز صغيرة أيضا.

هذه بلاد تتمتع بالموارد وبالثراء الطبيعي وبنتاج عقل وجهد الإنسان.

تأخر تأدية القسم لنجوان وزميلتها ديانا في "الحزب الديموقراطي" في الدائرة الانتخابية المجاورة كان بسبب إعادة عد أصوات الناخبين ثلاث مرات استجابة للإصرار الشديد والاستماتة على كل مقعد من "حزب المحافظين".

قصة مدينتين
*
إدمونتون Edmonton، هي العاصمة السياسية ومقر الحكومة والبرلمان.
كالجاري Calgary، هي العاصمة الغنية وبها مقرات شركات البترول والمليونيرات وناطحات السحاب وهذا ينعكس على دخلها من الضرائب ومن تبرعات الأغنياء السخية للمكتبات والفنون والثقافة والحدائق فتبدو أنها أهم وأجمل من العاصمة إدمونتون.

والكالجاريون والإدمونتيون، يتنافسون على كل شيئ بطريقة تشبه تلك العلاقة التي بين مدينتي يريم وذمار في اليمن. وهذا يبدو جليا في مباريات هوكي الثلج Ice Hockey التي يعتقد كل الكنديون أنهم رقم ١ في كل العالم وأنهم أفضل من الروس والأمريكيين.

مقاطعة البرتا
*
يوجد ١٠ مقاطعات تحكم ذاتيا ومعها برلماناتها وتشريعاتها وضرائبها في ظل الدولة الكندية الفيدرالية الإتحادية.
وهي تقع في الوسط والغرب من كندا ولا تطل على البحار أو المحيطات التي من حول كندا ولهذا فإن احتكاكها بالعالم الخارجي أقل من المقاطعات الشرقية المطلة على الأطلنطي أو الغربية على الباسيفيكي.
وهذا جعل من البرتا إحدى قلاع حزب المحافظين وبدون تذوق لأي شيئ يمت بصلة لليسار حتى ولو من بعيد، وهي بدون أي تواجد ولو حتى بعضو برلماني واحد للحزب الليبرالي الحاكم الفيدرالي-  الذي يقوده بيير ترودو.

البرتا، هي إحدى قلاح حزب المحافظين ويعتبرون الحزب الديموقراطي الجديد  يساريا بالرغم أنهم في الواقع يسار المحافظين أو يمين اليساريين والليبراليين.

المحافظون المتزمتون هنا في البرتا، يعتبرون رئيس الوزراء بيير ترودو الذي معه شعبية حتى عالمية، يساريا متطرفا وتعتبر مهاجمته وانتقاده إحدى الرياضات المفضلة وخاصة في الأرياف، وهم الذين قد يصل بهم الأمر حتى للمطالبة بالانفصال عن كندا بحجة أن معهم بترول وأغنياء وأن انجلو ساكسونيتهم أكثر من غيرهم، وأن معهم هوية خاصة، ويمكنهم الاستغناء عن الوطن الأم.

نتيجة انتخابات البرتا
*
الحزب الديموقراطي اكتسح كل مقاعد إدمونتون ال ٢٠.
وفاز ب ١٤ مقعد من مقاعد كالجاري ال ٢٦.
ولكن حزب المحافظين اكتسح المناطق الريفية، مثلما يفعل حزب الإصلاح في اليمن كما علق أحد الأصدقاء الأعزاء وأنا أحكي له بالتليفون عن التفاصيل.
النتيجة النهائية، هي فوز حزب المحافظين ب ٤٩ مقعد على حزب الديموقراطيين الذين حصلوا على ٣٨ مقعد.

وبهذا تحصل السيدة دانييل سميث Danielle Smith رئيسة حزب المحافظين على منصب رئاسة وزارة البرتا وتشكل الحكومة بينما تقود السيدة راشيل نوتلي Rachel Notley وتشكل حكومة الظل القرينة في البرلمان التي تحاسب الحكومة على الصغيرة والكبيرة.

نجوان الجنيد تقسم اليمين أمام ممثل العرش
*
سلمى لاكهاني، Salma Lakhani، معها منصب عجيب غير قابل للترجمة وهو The lieutenant governor of Alberta وهي تمثل الملك تشارلز المتربع على عرش بريطانيا وقد حازت على منصبها هذا بناء على ترشيح من رئيس الوزراء الإتحادي ترودو وتعيين ملكي من الملكة اليزابيث في عام ٢٠٢٠.
ممثلة العرش البريطاني ألقت كلمة مقتضبة ثم دعت كل من ديانا ونجوان لأداء القسم والتوقيع في دفتر عملاق والحصول على دبوس يشبكه أعضاء البرلمان في سترتهم وبعدها لنستمع كلنا لكلمة زعيمة حزب الديموقراطيين راشيل نوتلي.

كلمة راشيل نوتلي عن الحزب
*
قالت راشيل:
"نحن حاليا أكبر معارضة قد حدثت في كل تاريخ البرتا"
"وهذا يعني أننا سنخدم الألبرتيين بكل أمانة وبكل تجرد وبكل نزاهة وبأقصى جهدنا".
"وسنكون تقدميون.. وسنتطلع للمستقبل.. وسنركز على ما هو الأفضل للجميع".
"ونحن كمعارضة، فإن دورنا لن يقتصر فقط على مساءلة ومحاسبة الحكومة، ولكننا أيضا سنكون صوت أهل البرتا الذين يتوقعون ممن يمثلهم أن يعكس قيمهم ومحاذيرهم ومخاوفهم وتطلعاتهم".
"سندافع ونحسن الخدمات الصحية.. سنحارب لكي يحصل الناس على مساكن وخدمات بتكلفة معقولة.. وسندعم أطفالنا بطريقة أفضل في المدارس".

ولكن هذه هي المعضلة التي تشغل كل الناس وكل المجتمعات في كل بلدان العالم خاصة تلك التي تتمتع بالحيوية السياسية.

في الواقع هذه هي الأمور والمسائل التي تشغل الطبقة المتوسطة والفقراء في كل العالم الحي والمتقدم وهي وقود الصراع بين اليمين واليسار في كل الديموقراطيات الغربية.
عموم الناس واليسار، يريدون تكاليف مسكن وكهرباء وخدمات صحة وتعليم معقولة وهذا يستدعي إنفاق حكومي من ضرائب على الطبقة المتوسطة العليا وعلى الشركات الضخمة.

قطاع البيزنس والشركات والأغنياء والطبقات المتوسطة العليا واليمين، لا يعجبهم دفع الضرائب ويعارضون الإنفاق الحكومي والخدمات المجانية.

أثناء الانتخابات، تعهدت راشيل نوتلي بأنها سترفع الضرائب فقط على الشركات ذات الأرباح الضخمة وليس على الأفراد، ولكن يبدو أن هذا الطرح لم يصل إلى مسامع الناس بصورة جيدة.

كلمة راشيل نوتلي عن نجوان
*
ثم انتقلت رئيسة الحزب الديموقراطي إلى نجوان:

"نجوان،
بوصول مقاطعتنا إلى مفترق الطرق في نمو أكبر صناعاتنا… فإن رؤيتك أنتِ  وأفكارك أنتِ لبناء اقتصاد قوي ومستقبل قابل للاستدامة، هو ما تحتاجه البرتا الآن"

خبراتك في النفط والغاز وفي الطاقة المتجددة ستضفي وجهات نظر لها قيمتها في تدقيق ونقد أعمال الحكومة…"

"… ولهذا أنا فخورة بأن أرحب بك كوزيرة ظل للطاقة والمناخ في مجالات الكهرباء والخدمات والطاقة المتجددة".

"أنتِ عندك أفكار لخلق وظائف بمعاشات عالية، وبتنمية قطاع طاقة مزدهر، وستتطلع لك كل الأنظار في البرتا وأنتِ تدافعين عنهم داخل أروقة هذا المبنى… وخارجه".

"لهذا فإني أدعو الحاضرين وكل أهل البرتا لينضموا لي بتهنئة نجوان الجنيد بعد أن أدت القسم كعضو مجلس تشريعي عن دائرة جلينمور في كالجاري".

(تصفيق حاد طويل)

راشيل نوتلي
*
رئيسة الحزب الديموقراطي راشيل نوتلي، ٥٩ سنة، سبق وأن فازت بالانتخابات وكانت رئيسة وزراء البرتا في الفترة ٢٠١٥ - ٢٠١٩.

كانت هناك فرصة لمحادثة طويلة مع راشيل في حفل استقبال بسيط لتناول ساندوتشات وسلطات وقهوة وشاي بعد حفل أداء القسم.

راشيل، رياضية وتجري مسافات طويلة وتبدو غاية في اللياقة البدنية ولا توجد نقطة دهن في قامتها المنتصبة.

شعرت وأن أحادثها بأنها مثل الأسد الجريح الذي يكتم الألم ومازال يحمي العرين أو مثل الفارس النبيل الذي جاء في المركز الثاني في سباق الخيل بالرغم من أنه كان الفارس الأجدر وبالرغم من أن فرسه كانت المرشح الأكبر للفوز.

تستطيع أن تتكلم مع راشيل في أي إتجاه بسبب ذكائها العاطفي المشجع وذكائها الذهني الذي يلقط الفكرة وهي مازالت تحلق في الجو بالإضافة إلى حسن استماعها وتعبيرات وجهها الودودة.

سألتني عن بيتي وأهلي ومدينتي تعز في اليمن، وقلت لها بسرعة كل ما يجب وأنا أتابع رد فعلها وعلى عيونها وتعبيرات وجهها وكلها علامات تعاطف وعدم رضى على ما حدث ومازال يحدث.

قلت لها أيضا:
"هل تعرفين أني أحيانا أتفكر وأتعجب بأن هناك أوجه شبه بيننا وبينكم"
هي تعرف بأني الآن كندي مثلها تماما في هذه البلاد التي تقبل بالآخر مثلما تقبل بأهلها.
هذه بلاد جميلة وناسها أجمل وقد تقبلت أن أقول بأني يمني بالرغم من أني الآن أحمل جواز السفر الكندي ومعي كل حقوقها وعلي كل واجباتها.

ثم أكملت كلامي:
"أنتم عندكم أقلية 'البيض الاستعلائيون' White Supremacists العنصريون العنيفون ونحن أيضا عندنا أقلية من الاستعلائيين العنصريين العنيفين ولكن الفرق هو أن ما معنا قد اكتسحوا العاصمة بقوة السلاح، وهم الذين نخروا بيتي بالرصاص والقذائف، وهم الذين يحاصرون مدينتي تعز ويقنصونها ويقصفونها للسنة التاسعة على التوالي، وهم يستعينون بأقوى دولة توسعية في الشرق الأوسط بغرض السيطرة على أهل بلادهم".

ظهر على ملامح وجهها علامات التركيز والانتباه وهي تتفهم وتتفكر فيما قلته.

قلت لها بأني أشعر أنه سيكون من الملائم لو تمكنا من إيجاد فرص لمحادثات طويلة في مجالات كثيرة في وقت لاحق.

ابتسمت ووافقت وقالت:
"استطيع أن أرى أن نجوان أخذت منك الكثير في سلوكك وفي طريقة كلامك وحتى في تعبيرات وجهك أثناء الكلام".

نجوان الجنيد
*
ولدت في تعز وسافرت وحدها إلى آخر الدنيا.
وهي الآن أول يمنية وأول عربية وأول يمني في برلمان في كندا.
وسنرى كيف ستشق طريقها بينما يتطلع إليها أهل اليمن وأهل البلاد العربية وأهل البرتا وأهل كندا.

عبدالقادر الجنيد 
١٨ يوليو ٢٠٢٣