الجمعة 6 ديسمبر 2024
أنا وجوازي وعلي عبدالله صالح
الساعة 04:47 مساءً
الحسين المعافا الحسين المعافا

ضاع جواز سفري في جمارك اليمن في الثالث من تموز عام 2003، كان قد صادف ذلك اليوم دخول علي عبدالله صالح إلى اليمن قادماً من السعودية براً، كنت حينها محتاساً وغير مستوعب ضياع جوازي بتلك السذاجة من موظفي الجمارك اليمنية، إذ أن جوازي قد أخذه شخص غيري ودخل اليمن ليخزن بسرعة قبل الساعة السليمانية تاركاً جوازه في الجمارك لضحية أخرى، وكنت أنا الكبش لتلك الحماقة. تغيرت ملامح وجهي، بدأ الغضب والشتم داخل نفسي، لعنت المتسبب في هذه الورطة بكل أنواع الشتائم الحديثة والقديمة، ترنح أصحابي وجلسوا على الرصيف المقابل لنوافذ ختم الجوازات واضعين أيديهم على رؤوسهم من هول المصيبة القادمة، مروا الكثير من المسافرين من البلدين، وبقينا نحن ننتظر مصيرنا غير المعروف، أصحابي لأول مرة يدخلون اليمن، وعلى الأرجح ستكون الأخيرة. بدأت عليّ علامات غثيان ومحاولة لتقيؤ المشكلة بأي شكل من الأشكال للخروج منها. كنت قد تعبت من الوقوف أمام النافذة لوجود حل من مدير الجمارك، وقفت أمام أصحابي ثلاث سيارات سوداء، شكلها غريب، وصناعتها غير معروفة، كانت السيارات تُثير الأنظار حولها، فنحن خاصة لم نرَ مثلها أبداً، عدت لأصحابي وأنا فاقد نفسي، بدأنا نتحدث عن حل للخروج من هذا المأزق، كان جميع المارين ينظرون لنا بأسف ويقولون في أنفسهم: "فيهم واحد دبور، أدبرها عليهم".

لم نكترث لكل الذي كان يدور حولنا، بدأت زجاجات السيارة الواقفة أمامنا بالنزول الكهربائي، لوح لنا من داخلها شخص لم نعرفه حينها، اقتربنا منه، فكان الرئيس المرحوم علي عبدالله صالح، لم نكن مصدقين ما نراه، كيف لرجل بحجم وطن كامل يقف بيننا وتصطف سيارته مع المسافرين دون أي ربكة.

لم ينزل يديه للسلام حتى قال لنا كيف حالكم يا رجال.

قلت: والله الحمد لله، بس يا فندم علي جوازي ضاع هنا 
والحين أنا مثل اللقمة الواقفة في حلق البلدين.. لا أستطيع الرجوع للسعودية ولا الدخول لليمن.

قال يا رجال بسيط الأمر.. نزل من السيارة، ومسك يدي، ودخلنا أنا وهو إلى مدير الجمارك، كانت الناس مذهولة وجالسة تصور، وأنا مبتسم مائل إلى الضحك والدهشة. دخلنا مكتب مدير الجمارك، أول ما شاف الرئيس المدير شرغ في القات، قام الرئيس يخجف على ظهر الضابط بيده، حتى استوى الضابط وعاد لحياته من جديد، على طول الرئيس قال للضابط هذا المسافر السعودي ضاع جوازه هنا عندكم، وأنا الحين أبغى أدخله معايه للبلاد بدون جواز، وبلغ عن جوازه في جهة خروج المسافرين واحجزه حال وصوله. قال الضابط: حاضر حاضر يا بو أحمد تحت أمرك.

ألتفت لي الرئيس وقال يالله: أركبوا معانا، اليوم أنتم معزومين عندنا.

قلنا لا والله أنتم مشغولين ومسافرين وكذا واحنا ناس ضايعه.

قال: والله ما نسير إلا وأنتم معانا.

قلنا يالله يشباب. ركبنا.

أنا طلعت مع الرئيس قدام، والشباب طلعوا في المرتبة الثانية وحسن صاحبي طلع مع مرافقي الرئيس. وصلنا لمثلث عاهم، نزلنا بيت شيخ لا أذكر اسمه الآن، تغدينا، كنت أضرب بأصابعي صحن المرسة، فتتغطى الأصابع بالعسل والسمن ولم أصل بعد إلى فتة الدقيق. لم أتذوق الفحسة واللحسة الحقيقية إلا ذلك اليوم حتى طعمها باقي في لساني حتى اليوم، رغم أني أكلتها في أرقى مطاعم اليمن وهو مطعم الشيباني بصنعاء فلم تكن بذلك المذاق.

المهم تغدينا غداء العمر، غداء الملوك مثل ما يقولون، جلسنا للمقيل، كانت الساعة تُشير إلى الواحدة والنصف بعد الظهر، اتكأت كتف بكتف مع الرئيس، وهت ياسوالف لين بعد العشاء، كنت قد تهيأت لشرب الشاي، رن هاتف الحارس الشخصي:
- السلام عليكم
- وعليكم السلام
- معاك الأفندم فاضل مدير الجمارك
- اهلا حياك الله 
- حبينا نبلغكم بأن جواز الحسين حصلناه الآن.
- عُلم يا أفندم. الآن أبلغ سيادة الرئيس، وشكراً لكم يا رجال ما قصرتم.

كنا قد تناولنا آخر فنجان من البُن الخولاني بلونه الأبيض، قال الرئيس: هاه، إن شاء الله انبسطوا.. قلنا: هذه النعمة كلها وما ننبسط. ضحك. وقال: هيا يا خُبره نوصلكم الجمارك، جوازكم وصل، وأعذرونا على القصور واستروا ما واجهتم. لم أستطيع الرد حينها على كرم ونُبل أبو أحمد. تعلقت الكلمات في فمي كما يتعلق الطين في قدم الفلاح، قلنا له بيض الله وجهك، ويشهد الله أننا لم نصدق حتى اللحظة كل هذا الذي نراه أمامنا، ضحك الرئيس مرة أخرى وضحكنا. وأوصلنا بنفسه حتى الجمارك وقال سلمولي على شيخ الشمل حقكم.

*من صفحة الكاتب على (الفيس بوك)


آخر الأخبار