الجمعة 19 ابريل 2024
محسن العيني.. محارب البلاد الكبير وقديسها الجليل
الساعة 03:17 مساءً
محمد المياحي محمد المياحي

من بين كل الساسة اليمنيين الأوائل، هذا هو السياسي الوحيد الذي أدعو الجماهير اليمنية للصلاة عليه، متابعة مسيرته، تعليمها لأطفالهم، ونصب تمثالًا له بكل مدينة. رحل محسن العيني، وترك خلفه مسيرة محاطة بالمهابة والشرف، كان رجل دولة صارم ومسؤول يحترم نفسه. تقلد المناصب باقتدار، وكلما شعر بعجز أو فقدان صلاحيته الكاملة في التصرف، توقف وقدم استقالته في الضوء. كانت المناصب تأتي إليه وتفرض عليه فرضًا. حين تختنق الجمهورية، تستدعي محسن العيني؛ كي يسهم في تعبيد دروبها.

تابعت خمس حلقات للرجل، في برنامج شاهد على العصر، وشعرت كم أنه نزيه وحكيم، رجل من فصيلة الكبار، أولئك الأبطال الذين حملوا مصائر شعوبهم وصنعوا فارقًا في التأريخ.

محسن العيني، أحد أهم أعمدة الجمهورية، أقول أحيانًا: لولا محسن العيني، لربما ما تثبت النظام الجمهوري في البلاد، منذ اللحظات الأولى لقيام الجمهورية، كان الرجل يملك وعيًا متقدمًا بها، طاف سفارات العالم وانتزع اعترافًا بالجمهورية الوليدة، حتى ونحن في أكثر الفترات ارتباكا وهشاشة داخلية، قدم بلاده للخارج بصورة ملئية بالأنفة والكبرياء.

هناك مشهد سياسي صغير، ذو رمزية مهمة، يكشف جزءً من شخصية الرجل. في السبعينات وأثناء المصالحة الجمهورية مع الملكيين، تعهدت السعودية بدفع تكاليف المصالحة وما بعدها، باعتبارها كانت مساهمة في أعباء الحرب، وبعد المصالحة، ذهب محسن العيني إلى المملكة، بناءً على وعد الملك فيصل حينها، بتلبية كل طلباته.

أثناء اجتماع الفريق اليمني مع أعضاء الديوان الملكي، كتب رئيس الديوان، مبلغ مالي زهيد على ورقة وقدمه لمحسن العيني كمساعدة، قرأ الرجل الورقة، وعطفها، ثم قال بلهجة حازمة: اعتبروا اللقاء منتهي. أنا هنا رئيس حكومة تمثل شعب ولست باحثًا عن مكاسب شخصية، جئت إليكم بناءً على وعد ملكي بدعم بلادي، البلاد التي ساهمتم في دعم الحرب فيها وما نعانيه أنتم جزء من سببه. ثم أعلن الرجل رفع الجلسة وغادر نحو شقة إقامته، تمهيدا للسفر في اليوم التالي.

ارتبك أعضاء الديوان الملكي، وشعروا بالخجل، حاول الحمدي حينها_وقد كان نائبًا لرئيس الوزراء حينها_مدارة الموقف وامتصاص أجواء الذهول، ثم انتهى الإجتماع بعدها، وفي الغد، جاء مندوب من الديوان الملكي، إلى شقة العيني، واعتذر منه، قائلًا: أنهم لم يكونوا مدركين لطبيعة الوضع الصعب في بلادنا، ثم منحه ورقة فيها تلبية لكل مطالب الجمهورية اليمنية، وجبرر للضرر الذي لحق بها..تقبل العيني الاعتذار وأوكل موضوع المساعدة للفريق التابع له، ثم تأهب للعودة.

أتذكر هذا الموقف للعيني وأنا أشاهد، حفلة الرخص والمهانة التي سمح بها المسؤولين اليمنيين في تعاملاتهم مع الجيران. ما هو الفارق، بين طريقة تعاملهم وتعامل محسن العيني. الأخير رجل يتحدث عن بلاده أمام الغرباء، بكبرياء الملوك، حتى وهو لا يملك قيمة تذكرة جوية لزيارة هذه الدولة أو تلك، يظل محتفظًا بجلالة القائد الممثل لشعب كامل ولا يسمح للهوان أن يتسلل إليه ولا الغريب أن يتعالى عليه. مهما كان وضعك الداخلي، تستطيع أن تتحدث بندية مع الأخر، ولا تترك لضعفك الداخلي أن ينعكس على طبيعة حديثك عن شعبك. فقيمة الشعوب المعنوية تظل مصانة مهما كان وضعها المادي.

قدس الله سرك أيها المحارب الكبير، أخر أنبياء البلاد المتعبة وقديسها الجليل، ارقد بسلام تغشاك صلوات الشعب والأجيال، جيل بعد جيل.


آخر الأخبار