الاثنين 4 نوفمبر 2024
المرآة.. التي تجلي العوالم المخبوءة !.. في مجموعة هدى جعفر: " اليد التي علّقت المرآة "
الساعة 07:16 مساءً
د. فارس البيل د. فارس البيل


 
 

من براعة القص؛ حرص المبدع على الإدراك الحسي والجمالي للقارئ، ومراعاة جذبه في محيط ذاكرته المكانية والشعورية، ومشاهد الحياة اليومية، مع اشتعال الكاتب بالخيال، والتقاط الأساطير والعجائبية والرؤى الغرائبية، واندغام هذا بذاك في مشهدية حكائية سلسة مألوفة ومرئية، مضمخة بالعجيب والغريب، بما يخدم الدلالة العامة ويغذي إشارات السرد ويخدم فكرته كما يجب.

ذلك ما أتقنته الكاتبة اليمنية/ هدى جعفر في مجموعتها القصصية الأولى " اليد التي علّقت المرآة ".

المجموعة القصيرة تشذبت بلغة ناضجة ومتقنة، زادت ثراء القص، وعمقت رؤاه، وأوحت باتزان معانيه.

على أن هذه المجموعة التي ضمت سبع قصص متنوعة، متباينة الحجم والفضاء الزمكاني، متقاربة البناء والرؤية والدلالة، بأحداث تمسرحت في الفضاء اليمني أو به، وشخوص وظفت بإتقان جيد، تنقلت بين ثنائية الذكورة والأنوثة باتزان، لتفلت الكاتبة من قيد التصنيف النسوي في السرد المتبني هموم المرأة، وتتوزع الكاتبة بانسراح معمق في الشخوص، وكانت تمسك بالراوي في كل قصصها الست بضمير الأنا، وتندغم مع بطل القصة أو شخصها الرئيس، وتتحكم في عوالم الشخوص النفسية ودواخلها، باستثناء القصة الأخيرة " صلاة مسعود" التي تخلت الروائية هدى عن موقع الراوي من الداخل، واكتفت بالراوي العليم أو من الخارج، لكنه محيط بكل أبعاد الشخصية النفسية وعوالمها الداخلية، لأن هذه القصة المشهدية السوريالية كانت بحاجة لتنميقها من بعد كلوحة، ورسمها أمام المتلقي الذي أجلسه الراوي إلى جانبه ليتتبع مسعود وغرائبيته في تعز، بعكس القصص السابقة التي كان المتلقي ملتحماً مع البطل يحدثه بنفسه مباشرة.

ومنذ القصة الأولى " الباب وأنا وعنايات أبو سنة" والغرائبية تتصاعد في مسار السرد، وتوظف بجرعات محسوبة كما في "نصف بصلة" و "حديث الساعات" أو " غازي مع حبي" وذروتها في "صلاة مسعود" .

والغرائبية في السرد اليمني معجونة بالخرافة الشعبية في كثير منها، أو منثالة منها، إلا أن هدى قد انزاحت للغرائبية الحديثة متأثرة بأعمال أدبية عالمية، واعتملت ما يستوجب سردها في مشهدية الغموض.

بيد أن المجموعة القصصية مع أسلوبيتها الحديثة بناءً، وتشكيلها المتنوع، دغمت المحلية في بنيتها المكانية، ذلك أن الفضاء المكاني مقصد الدلالة وغاية السرد، إذ يكاد الفضاء المكاني يحمل رمزية المجموعة القصصية كاملة، باعتبارها معالجة مونودرامية لأغوار الوجع اليمني وعناء الإنسان فيه، بلا تمايز بين الألم عند الذكر والأنثى، وكأنما المجموعة اكتفت بخط نسقي للوجع اليمني دون التعمق في الاضطهاد الأنثوي أزيد، باستثناء قصة "حديث عن الساعات"، ولذلك وجدنا الشخوص الرئيسية متوزعة بين الذكر والأنثى، وقد برعت الروائية هدى في استكناه الوجع من منظور الجنسين بلا فوارق بيولوجية يمكن أن تلفت القارئ من الجنسين، لتحمل هموماً مشتركة أكثر.


وقد لا أميل إلى أن الروائية هدى جعفر اعتمدت في بناء هذه المجموعة على خبرتها السينمائية، وتمثلت مشاهدها من ذات البناء، إذ أن الوصوف في المجموعة وبناء الأحداث واقعيتها أقرب من نَفَس الفعل الكتابي لا الفعل التصويري، لذلك احتفظت الروائية بميزات الأداء القصصي أكثر من الانفلات نحو السيناريو والنهايات المتوقعة.
ولذلك كانت خواتيم القصص غير مألوفة، وتُركت كأبواب مفتوحة للقارئ يُعمل فيها تساؤلاته ويشترك في تقديراتها وينخرط في التأويل.

 على عكس البدايات التي احتفظ الراوي، كان ذكرًا أو أنثى، في القصص باقتياد القارئ إلى منطقة الجذب وبؤرة القص، من دون تنويع في الزمن السردي بين التقديم والتأخير أو الاسترجاع، فقد اعتمدت المجموعة خطاً زمنيا وهمياً، ليس محدداً لكنه ليس متناثراً بين الأزمنة، إذ بدى الزمن الفعلي في القصة كأنما هو في حقبة زمنية متقاربة تنتمي لعقود القرن السابق المتأخرة في اليمن، دونما إفصاح أو تركيب المشهدية بناء على زمن، كما لو أنه زمن حاصل ومستمر لا فرق.. فالمرآة واحدة وما زالت معلقة، تعرض عليها مشاهد الواقع.

على عكس المكان في المجموعة الذي أفصح عن نفسه عبر الأحداث بين عدن وصنعاء وتعز وغيرها من المدن والأزقة والشوارع المحددة وحتى المحلات المسماه والبيوت ووصف الأشياء والبيئة اليمنية، والأماكن الأخرى التي يمكن استكناهها، وغاية هذا التأطير تكثيف الدلالة وواقعية المشهد، وتعميق القصد، واقحام المتلقي بفضاء المعنى ودروب الحكي، فالمكان هو المشبع الأكثف لفكرة السرد لما يكتنفه من دلالات لايحتاج السرد لشرحها، فبمجرد ذكر المكان، ينطوي على جملة الذكرى والتصورات بما يشي بالفكرة جُلها.

والمحلية الناضحة في المجموعة بتوزعات المكان من المدينة إلى أصغر حجرة، هي زوايا المرآة المعلقة التي تحفل بكل الصور المبتغاة في هذه المجموعة، وانعكاسات كل هذه الحالة اليمنية الواقعة بهذا الأداء المخذول في هذه الحياة، بكل تفاصيلها الموجعة والمدهشة في آن.
  
على رغم حضور المرآة بذاتها في مواضع من القصص، كرمزية مختزلة تشي بدلالات عنوان المجموعة المبتور إلا من الإشارات الكثيفة له في أنساق القصص الداخلية وإشاراتها الخارجية.

والمجموعة بسردها المتماسك في كثير من جوانبه؛ حفلت بعبارات كثيفة، تختزل مجموع المعاني في السرد كله من مثل جملة: " المدينة التي تقتر على كل شيء، لكنَّها تمنح حَلَمة فائضة عن الحاجة؟!" في مشهد حلمة نهد برزت على جبين مسعود، كأنما تختصر هذه الجملة حياة اليمني وبيئته ودوائر الوعي التي تتحكم به ويعتاشها.

 أو مثل جملة ناضحة بالدلالة بذات القصة:" رغم أن اليمنيين بناؤون مهرة، فإنهم يفشلون دوماً في بناء السلالم، نزول الدرج أسهل من الصعود في كل مكان إلا في اليمن، كلاهما صعب".
على أنه لا يمكن تحميل النصوص أبعاداً سياسية بسيطة، بقدر ماهي أبعاد ثقافية معمقة، مأخوذة بالتاريخ والعادة والموروث والبناء الثقافي لليمن عبر التاريخ بنواتجه التي وشت ببعضها هذه المجموعة.

  
لقد اعتمدت المجموعة شحن المشهدية البصرية بداخلها بتفاصيل كثيرة، تنعش ذاكرة المتلقي المحلي أولاً والخارجي بفضول متحفز، عبر حشدها لتفاصيل كثيرة من الأدوات والأطعمة اليمنية والازياءالتراثية، واللعب، والحيوانات، والأثاث والمواقع والأشكال وغيرها، لتعطي طابع الواقعية السردية ومصداقية الفكرة، بجوار طاقة المخيال المتخصب بالعجائب. التي تمثل غطاء ثقافيا يحيط حياة اليمني ويندغم في تفاصيل يومياته.

كما اعتمدت المجموعة ببراعة أسلوب النوافذ المواربة في السرد والدلالة، فلا غموض وإبهام موغل، ولا تصريح ومباشرة فاقعة، ويبقى المتلقي أمام هذه القصص الممسرحة بمشهدية فانتازيا الواقع؛ مشدوهاً لاكتناه ألغازها والتقاط إشاراتها وسبر أغوارها، ومحاولة إكمال شواغرها التي تركت عن قصد وفنية .


إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
آخر الأخبار