السبت 7 ديسمبر 2024
نداء الغياب وأغنية النسيان: حين تتعانق الكبرياء والحب في مسرح الندم
الساعة 09:23 صباحاً
فتحي أبو النصر فتحي أبو النصر

نحن البشر نعشق برعونة، ونتألم في صمت، ونمسك بجرح فقداننا كأيقونة مجيدة نرفعها في وجه الزمن. نحب ونُجرَّح ونُفارق، ومع ذلك، تستمر المشاعر القديمة ذات أثر عميق في زوايا أرواحنا، تكشف عن حضورها في كل نظرة حنين وفي كل همسة تحت سقف الذكريات. بل لعل أعظم الكوميديا الإنسانية هو هذا الصراع الأبدي بين الحب والكبرياء، بين الرغبة في العودة والإصرار على عدم الاستسلام.

إنها الغطرسة التي تلوح بكبريائها أمامنا. كبرياء يجعلنا ندور في دوامة من العذاب دون أن نسمح لقلوبنا بالبكاء علنا أو الاعتراف بالخطأ. إن كبرياء الإنسان ليس أكثر من محاولة بائسة لتثبيت صورة الذات أمام الآخر، أمام نفسه، وأمام الجرح الذي يفتك به بصمت كل ليلة. هنا يتبدى التناقض في ازهى صوره: نحن الذين نرتجف حبا وخوفا، نلوذ بالصمت ونضع الأقنعة كي نخفي أوجاعنا.

أربع سنوات ونيف، وأنا اردد في صمتك الخاص أغنيتك السرية للغياب، اعبر المسافات الشاقة بيني وبين صغاري ،اعطيهم ما استطيع من رحمة واعتذار من عدم وجودي معهم خلال التربية، لا امكث معهم إلا نصف يوم في الشهر ناكل معا ونتنزه، اغذيهم و البسهم، ثم أنزل الاسانسير وأنا ادمع.لكن من دون أن اخبرهم بما يدور في فؤادي. انني بدون أن أكون في حضرة أطفالي أبقى لاشيء،فقط اصير شاهدا على حياتهم البعيدة عني هل يعقل ، بينما اتطلع إليهم من نافذة الحاضر، لكن يظل الحب مكبلا بكبرياء صامت، وكأن الألم الذي افنى فيه كل يوم هو وسيلتي الوحيدة لتستحق أمهم هذا الحب العصي.

لعلنا نفترق طبعا لأننا بشر نخطئ ونعجز عن الغفران، كبرياؤنا يجعلنا نتمسك بأخطائنا كأنها إرث نحتمي به، كأنها آخر خطوط الدفاع في معركة مع خيالات وهمية. نحن البشر، لا نغفر لبعضنا البعض، بل نحكم على أنفسنا بالسير في متاهة من الذنب واللوعة، حتى ننسى تماما من نحن ولماذا التقينا.

الفراق، إذا، ليس مجرد حادثة عابرة، بل إنه يفتح جروحا تتآكل ببطء، لكنه يبقي بصمة لا تندمل، بصمة تكشف عن هشاشة الإنسان. كذلك كل لحظة تنأى فيها تلك الأرواح العزيزة عني، تزيدني يقينا أن الإنسان لم يخلق ليعيش في عزلة وقسوة. لقد جبلنا على المودة، على الرحمة، على التشارك في الأحزان قبل الأفراح. لذا يظل الغياب مرا، يبث سمه في زوايا الذاكرة، ويحول الشوق إلى رفيق دائم للحاضر.

إن الغفران عند الله سماحة، ومسامحة لا حدود لها، بينما عندنا، نحن البشر، هو عبء ثقيل نحمل منه القليل ونبقي الكثير في أعماق نفوسنا. كأننا نمنح أنفسنا عذرا بالتمسك بالثأر العاطفي، لأن الاعتراف بالغفران يبدو كإقرارٍ بضعف الذات، كإذعان للهزيمة في معركة الحب والكبرياء.

واذن ..أليس الفشل في التسامح، في نهاية الأمر، الفشل في التسامح هو انعكاس لضعفنا البشري؟ أليست الغيرة والغضب والندم زوايا نفسية تصب في متاهة واحدة هي عدم القبول بضعفنا؟ الله، في عليائه، يعلم أن الإنسان خطاء، ويعفو عنه مرات لا تحصى، إذا تاب واعترف بخطاياه..لكننا نحن، نأبى أن نعفو لأننا نعتبر أنفسنا ملوكا صغارا في ممالك وهمية.

كبرياؤك، يا حبيبتي، هو ما يجعلك تقاومين الحنين، وما يجعلك تلوذين بالصمت وتغلفين نفسك بقشرة الغياب، بينما في الحقيقة، أنت من يرتجي العودة. إننا لا ندرك احيانا كم نحن هزلاء أمام مشاعرنا؛ نظن أننا ننتصر حين نكبت اعترافاتنا، وحين نتجاهل أحاسيسنا، لكننا لا نفعل أكثر من مراكمة المزيد من المرارة.

الكبرياء ليس إلا قناعا نخفي وراءه ضعفا لم نجرؤ على معالجته. نكبر بالمعنى المادي، ولكن داخلنا، نظل أطفالا ضعفاء، يخشون مواجهة عواطفهم كمن يخشى مواجهة الحقيقة في مرآة واضحة. لهذا، يسقط القناع مع مرور الوقت، ومع كل نظرة إلى الماضي، إلى ذلك الحب الذي كنا نظنه عابرا، إلى تلك الندمات الصغيرة التي تراكمت. و

أقول بعد أن يسقط قناع الكبرياء، يبدأ الإنسان في مواجهة نفسه بصدق، وهو ما يعتبر نقطة التحول في مسار رحلته النفسية والعاطفية. هنا تتضح الصورة، ويظهر الإنسان على حقيقته، بكل ضعفه ومشاعره المتراكمة.

ثم حين يسقط القناع، يشعر الإنسان بالتحرر من الأعباء التي أثقلته. يتخلص من تلك الحواجز النفسية التي وضعتها الكبرياء والغرور. يصبح بإمكانه أن ينظر إلى نفسه في مرآة الجوهر دون تزييف أو خداع. وهذا التحول يتطلب شجاعة، لأن مواجهة الذات تتطلب الاعتراف بالخطأ، بالندم، وبالألم.

مع هذا التحرر، يبدأ الإنسان في إعادة التواصل مع عواطفه. إنه يكتشف أبعاد مشاعره التي كان يخشى الاقتراب منها. يصبح بإمكانه الشعور بالحب، بالحزن، بالشوق، والندم. يتحرر من القيود التي كانت تمنعه من التعبير عن مشاعره، ويدرك أن العواطف ليست ضعفا، بل هي جزء أساسي من كينونته الإنسانية.

تتبع هذه المرحلة عملية الغفران، والتي تبدأ من الذات. عندما يدرك الإنسان أنه كان قاسيا على نفسه، يبدأ في مسامحة نفسه على الأخطاء الماضية. ثم يتجه نحو مسامحة الآخرين، بما في ذلك أولئك الذين تركوا أثرا في حياته، سواء بالحب أو الفراق. هذه العملية تعيد بناء العلاقات، وتفتح آفاقا جديدة للتواصل الإنساني، مما يساعد في شفاء الجراح العاطفية.

بعد ذلك، يأتي دور التعلم والنمو. يتعلم الإنسان من تجاربه، من الأخطاء التي وقع فيها، ومن العلاقات التي خسرها. يبدأ في تطوير وعي أكبر بأهمية التواصل الإيجابي، وبأهمية الصدق مع النفس ومع الآخرين. يعيد تقييم القيم التي عاش بها، ويعمل على تصحيح المسارات التي اتبعها.

ثم يكون التقبل، يأتي التقبل. فيتقبل الإنسان نفسه كما هو، مع كل عيوبه ونقاط ضعفه. يبدأ في قبول الماضي، بما فيه من حب وفراق، ويعمل على التعايش مع تلك الذكريات. بدلا من أن تكون ماض ثقيل، يصبح الماضي جزءا من تجربته الإنسانية، مما يجعله أقوى وأكثر نضجا.

هذا المسار من الفهم والنمو يمكن أن يعيد الإنسان إلى الحب. فهو الآن، وقد تحرر من قيود الكبرياء، يمكن أن يعيد بناء علاقاته من خلال الصدق والشفافية. يجد في نفسه القدرة على الحب النقي، دون خوف من الفشل أو الندم، ويكتشف أن الحب ليس مجرد شعور عابر، بل هو تجربة عميقة تنمو وتزدهر مع كل تحد جديد.

وتحديدا، عندما يسقط قناع الكبرياء، تبدأ رحلة إعادة الاكتشاف، التي تنطلق من الصدق إلى الغفران، وتؤدي إلى شفاء الجروح وبناء علاقات قائمة على الحب والتفاهم حقا.

ربما، مع مرور الزمن، يصبح الغفران ممكنا. ربما يوما يتصالح المرء مع ضعفه ويتجاوز حدود كبريائه. ربما يتسامح مع نفسه أولا، فتتسامح مع الآخر. فالحب، حين يكون صادقا، يدعوك دوما للعودة، ليس فقط إلى من تحب، بل إلى نفسك، إلى تلك النسخة منك التي كان يمكن أن تكون، لولا العناد ولولا الألم.

لا تتركين الكبرياء يبعدني عن أطفالي، فقدرة الإنسان على الحب هي دليل ضعفه، لكنها أيضا دليل قوته الأسمى.

ألا تعلمين أن كل لحظة ابتعد فيها عنهم، تضاف إلى طعنة الألم الذي أعيشه يوميا؟ ماذا يعني أن يكبر صغاري بعيدا عني؟ يعني غربة مضاعفة، غربة عن جزء مني، عن أحلامي التي نسجتها حولهم، وعن الذكريات التي لم أتمكن من صنعها.!

إن هذه الغربة ليست مجرد مكان، بل هي حالة نفسية معقدة. يكبرون في عالم لا أكون فيه، أراهم فقط في صور على الشاشة أو في ذكريات مؤلمة. أفتقدهم في كل تفاصيل حياتهم اليومية، في ضحكاتهم، في دموعهم، وفي كل خطوة يخطونها. يتربون على فكرة غريبة عن والد لم يكن بجانبهم. كيف يمكن لمشاعر الحب أن تتعايش مع هذا الفراق الموجع؟ هل يدركون أن حبهم هو المكان الذي يحمل كل أحلامي وآمالي ولو الآن بوجع؟

إن الغربة التي يشعر بها الآباء لا تتعلق فقط بفقدان الجسدية، والذهنية بل بفقدان الروح أيضا. تتسلل الأفكار إلى ذهني: هل سأكون غريبا بينهم عندما أعود؟ هل سيستطيعون أن يروني ذلك الشخص الذي يحبهم، أم سيشعرون بأنني مجرد صورة في خيالهم؟ إن كل لحظة من الفراق تقوض العلاقة، تجعل الحب مشوبا بالحنين والأسئلة، وتجعلني أشعر وكأنني لاشيء في حياتهم.

أعاتب نفسي، أعاتب الكبرياء الذي يمنعني من التعبير عن مشاعري، يمنعني من الانفتاح على أطفال يفتقدون لمسة الأب، لأحضان لم تعطى. هل أستطيع أن أعيد بناء ما فقدته؟ هل أستطيع أن أكون لهم أكثر من مجرد اسم، أكثر من ذكرى تنسى مع مرور الوقت؟ كلما تفكرت في ذلك، أدركت كم هو خطأ أن نسمح للكبرياء بأن يوقفنا عن الحب، أن ندير ظهورنا لمن هم بحاجة إلينا.

أريد أن أكون حاضرا، أريد أن أُظهر لهم أنني موجود، رغم كل الصعوبات. أريد أن أعيد بناء العلاقة معهم، أريد أن أعلمهم أن الحب يتجاوز الفراق، وأن التواصل يمكن أن يرسم بألوان الفهم والمودة والرحمة. أريد أن أُثبت لهم أنني، رغم الغربة، ما زلت أملك القدرة على الحب، على العطاء، على أن أكون الأب الذي يستحقونه.

إن كل لحظة تسمحين فيها للكبرياء بأن يمنعني من التواصل معهم، هي لحظة تضيع فيها فرصة أخرى لبناء الحياة، ولتأصيل روابط لا تنكسر. لذا، أتمنى أن تعملين على كسر هذا القيد، تحلي بالشجاعة لأكون الأب الذي يحتاجونه، ولأكون قريبا من قلوبهم، مهما كانت المسافات.


إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
آخر الأخبار