آخر الأخبار


الجمعة 9 مايو 2025
مسؤولية العلم أو مسؤولية المنصب، هي في المحصلة النهائية مواقف. و هما توجبان على من يكون له منزلة في هذه أو تلك، أن يكون بمستوى المكانة التي يمثلها أو حظي بها ؛ عِلما أو منصبا، و أن يحفظ للعلم قدره، ويحفظ للمنصب مكانته، و أن يؤدي رسالة علمه، أو وظيفة منصبه، بكثير من الصبر و التواضع، و الاتزان و التوازن، وأن يكون همه أن يقوم فيها بما يوفّيها حقها من الأمانة والجدية، دون تضجر أو سخط، أو تعال أو كبر، أو محاباة أو انحياز، أو تغيب أو إهمال، و أن يترفع عن أن يُسْتدرج إلى مزلّة ردود الأفعال .
أذكر حين كنت في المدرسة الاعدادية؛ بحي المعلا بعدن؛ كان يدرس لنا اللغة العربية مدرس عراقي، و كان قريبا إلى نفوس الطلاب، إذ لم تكن له حدّة و صرامة بعض المدرسين ، و كان بارعا في طريقته و تقديم دروسه، و إن كان هذا ، ليس موضوع هذه السطور - لكن من حق مدرسينا و أساتذتنا علينا أن نذكرهم بكل خير على ما أسدوه لنا في كل المراحل الدراسية - غير أن ما أود أن أقوله - هنا - أن هذا الاستاذ ذكر لنا - يوما - في قاعة الدرس؛ موقفا طريفا لعالم لُغوي عراقي شهير اسمه مصطفى جواد، و بالمناسبة كان استاذنا اسمه جواد، وكان مما قاله : أنه كان للدكتور مصطفى جواد برنامجا إذاعيا يوميا، يذاع من إذاعة بغداد بعنوان : قل و لا تقل ، و كان في كل صباح يستقل سيارة أجرة إلى مقر عمله . وذات صباح جاء و أخذ مقعده على سيارة الأجرة، و بعد هنيهة بدأ صاحب السيارة يتضجر من طول انتظاره للركاب، فمد يده ليُذهب السآمة عن نفسه إلى مفتاح الراديو في السيارة، و إذا هو يفتح على برنامج : قل و لا تقل، و إذا بصوت الدكتور مصطفى يصدح من الراديو : قل يا أخا العرب، و لا تقل يا أخو العرب ؛ و لأن صاحب السيارة كان متضجرا من تأخر الزبائن أخذ يقول : قل يا أخو ( الوسخة ) و لا تقل يا أخو (...) و أغلق الراديو بعصبية، فراح الدكتور مصطفى يصحح له اللفظ : قل : يا أخا الوسخة، و لا تقل يا أخو ال .... !
كان السائق بالطبع لا يعرف أن الراكب الذي معه هو العالم اللغوي الكبير، و صاحب البرنامج الذي تبثه الإذاعة .
لم يستفز الدكتور مصطفى جواد ما تلفظ به السائق من تهكم و شتيمة، بقدر ما راح بأريحية متناهية يصحح له كيف يبني العبارة بناء صحيحا، و يقولها قولا سليما : قل يا أخا... و لا تقل يا أخو ... !!
بدا الدكتور و لسان حاله كما قال حسان :
لساني صارم لا عيب فيه و بحري لا تكدّره الدِّلاءُ
مكانة المرء العلمية أو الفكرية أو الإدارية.. أو غيرها تستلزم الرزانة و الاتزان و التوازن، بل هي المهارة التي تمثل بيت القصيد لتلك المكانة العلمية أو الوظيفية يوم أن تتحول إلى ثقافة سلوكية، كالتي ترجمها الدكتور مصطفى جواد فعبرت عن هامته العلمية، و قامته الفكرية ، و انضباطه السلوكي .
المسؤول الإداري، و خاصة المسؤول الرسمي الذي يتبوّأ منصبا رفيعا يقف تحت مراقبة أنظار الجميع، و في الوقت نفسه محل تلقي مطالب و مشاكل الجميع، و عليه هنا أن يكون على مسافة واحدة من الغني و الفقير، و دون أن يفرق بين القريب و البعيد، و لكن لا يقف على مسافة واحدة من الظالم و المظلوم ..!!
و عليه في كل الأحوال ألا يستخفه مدح، و لا يستفزه قدح، و إلا كان صغيرا غير أهل لما هو فيه .
صاحب المنصب الرفيع، من العيب أن يتعامل مع القضايا و الأحداث بعقلية (مفسبك) غِرّ ؛ لأن كلماته، أو كتاباته تعتبر موقفا، و اتخاذ المواقف تترجم مدى الشعور بروح المسؤولية، و ليس الانجرار لحسابات، أو لنفسية مسكونة برواسب مندثرة ، يتعامل بها في عمله مع الآخرين.
موقف ظريف و طريف ذلك الموقف الذي كان مع الدكتو مصطفى ! و الأظرف منه أن العلّامة اللغوي و عضو المجامع اللغوية العربية في عدة دول عربية، إهتم لأداء رسالته العلمية، و لم تأخذه العزة بالإثم، و لا تعالى على السائق بردة فعل أحمق، بل مثّل قمة التواضع و الاتزان .
لقد كان خادما لرسالته، مؤديا لمهامه، و لم يكن موظفا لنزعات ذاته، ولا غرور نفسه، و لا إيحاءات غيره، ولا هواجس نفسه .
كتب الخليفة أبو جعفر المنصور إلى سوار بن عبدالله قاضي البصرة كتابا فيه : أنظر الأرض التي تخاصم فيها فلان القائد و فلان التاجر فادفعها إلى القائد، فكتب إليه سوار : إن البينة قد قامت عندي أنها للتاجر فلست أعطها لغيره إلا ببينة، فكتب إليه المنصور : و الله الذي لا إله إلا هو لتدفعنها إلى القائد، فكتب إليه سوار : والله الذي لا إله إلا هو لا أخرجها من يد التاجر إلا بحق.
فلما وصل كتابه إلى المنصور قال : مَلأتُها و الله عدلا، فصار قضاتي تردني إلى الحق !
تأمل موقف القاضي الصارم في أداء أمانة مسؤوليته، وتأمل كيف تراجع الخليفة و انصاع للحق، رغم رغبته في محاباة أحد قادته، فعاد يمتدح الموقف و يمتدح موقف نفسه، أنه ملأ الأرض عدلا !
الإنصاف، هو الانتصار للحق، و الموقف الحق لا يتحوّر بتعسف الألفاظ، و لا بتنميق العبارات، و تَولّد المبررات.
المواقف محل اختبار للمرء، و في ميادين اتخاذ المواقف تسقط أقنعة و تثبت أخرى.
عن قديس المستشفى ومدعي النبوة
إعادة 15 مليون ريال سعودي للحجاج اليمنيين بقرار رسمي
دولة في حقيبة سفر... وصنعاء في قبضة الطغاة
لماذا يرتجف الحوثي من فنان؟
حمير التهريب وحمير الخراب