آخر الأخبار


الجمعة 30 مايو 2025
إسرائيل دولة غير طبيعية من وجوه شتى: فهي علمانية و«يهودية»، وهي ديمقراطية تنتمي لـ«العالم الحر»، واحتلال من بقايا عصور الاستعمار، وهي «تحترم حقوق الإنسان»، وتدمر غزة، وهي «واحة السلام» في المنطقة، والدولة الأكثر إثارة للحروب في العالم، وهي دولة «هجوم» واسم جيشها «جيش الدفاع»، وهي كذلك «حامية الغرب» ومحميته في الوقت ذاته.
وفوق ذلك، هذه الدولة تعد شرقية الجغرافيا، غربية التاريخ، أو شرقية الأرض (التي احتلتها) غربية الآيديولوجيا التي أنشأتها، دولة عرقية الهوية بأعراق مختلفة، من الشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا وأوروبا وأمريكا، علاوة على أنها دولة تعيش في العصر الحديث، وتفاخر بـ«الجد الطوطمي الأسطوري» الذي اخترعته لمواطنين من أعراق شتى، لدرجة أن كل رؤساء وزرائها وُلدوا في دول أخرى، عدا بنيامين نتنياهو الذي ولد لأب من أصل بولندي وأم أمريكية.
وتستمر سلسلة تناقضات دولة يهودية «دينية» أقامتها قيادات صهيونية «ملحدة»، لا تؤمن بالتوراة، ولا تقيم اعتباراً للوصايا العشر، ولا تعتقد أن «الرب تجلى لموسى فوق الطور، وألقى إليه بالألواح المقدسة»، ومع ذلك تقوم مشروعيتها على حكايات «عهد الرب»، و«أرض الميعاد»، و«شعب الله المختار»، في جملة من التناقضات جسدتها العبارة المنسوبة لأول رئيس وزراء لإسرائيل، وهو البولندي ديفد بن غوريون الذي قال: «في إسرائيل لكي تكون واقعياً يجب أن تؤمن بالمعجزات»، وهي عبارة تشير إلى مأزق فكري وشعوري يعاني منه الإسرائيليون الذين يشعرون بالتمزق بين كم هائل من التواريخ والذكريات والهويات والروايات والأساطير والتناقضات التي تجعل الذهنية الإسرائيلية مشوشة، لدرجة نفورها من الأساطير الدينية، مع احتياجها لهذه الأساطير لبناء الدولة والمجتمع، كشأن من يجبر على تصديق خرافة، لأنها أصبحت ضرورية لوجوده.
والمواطن الإسرائيلي هو النموذج المصغر لهذه الدولة «المجمعة»، مواطن قدم من جهات شتى لتشكيل مجتمع يريد أن يتماسك، وهو بالفعل يبدو من الخارج متماسكاً، لكنه تماسك ظاهري، تماسك مبحرين على مركب يقتضي الحفاظ عليه أن يكونوا متماسكين، تماسكا قسريا، مدفوع بالخوف: الخوف من الماضي البعيد والقريب، ماضي الكوارث توراتية الحجم التي حلت بـ«شعب الله المختار»، وماضي الاضطهاد الأوروبي، وذكريات الهولوكوست التي تعيد تشكيل لاوعي أحفاد الناجين من المحرقة الذين يبدعون ـ اليوم ـ في صياغة محارق أخرى، لشعب كل ذنبه أن الاختيار وقع على أرضه، لتكون «وطناً قومياً» لشعب آخر جيء به «لفيفا»، حسب النص القرآني الذي يعكس تناقضات هذا اللفيف العرقي والطائفي والثقافي واللغوي واللوني والقيمي الذي يشكل شعب إسرائيل.
وإذا كانت إشكالية إسرائيل/الدولة تتجسد في إسرائيل/المواطن فإن بنيامين نتنياهو يعد التجسيد الأبرز لجملة التناقضات التي تعانيها هذه الدولة، نتنياهو هو التجسيد العملي لدولة الاحتلال الإسرائيلي، وهو مواطن يتعمق لديه جرح الهوية، بفعل تمزقها بين جنسيات وثقافات وجغرافيا مختلفة، وهو التمزق الذي جعل نتنياهو كوالده متطرفين في قضايا التعصب لـ«الهوية اليهودية» للدولة، هروباً من جراح الذاكرة، وصراع الهويات الذي يعتمل بشكل أو بآخر، داخل الشخصية الإسرائيلية. هذا التطرف أخرج شخصية نرجسية معقدة تداري خوفها بالتهور، وتخفي ضعفها بالقسوة المفرطة، وتغطي فسادها بصفحات التوراة.
ومع كل تهم الفساد التي تلاحق نتنياهو إلا أنه يصر على تصور نفسه مدافعاً عن القيم الغربية اليهودية ـ المسيحية، على أساس أن إسرائيل هي حاجز الصد الأول، دفاعاً عن الغربيين، «أبناء النور»، في وجه بحر من الإرهابيين الإسلاميين، «أبناء الظلام» الذين يريدون تدمير الغرب، والقضاء على حضارته، فيما يتقمص نتنياهو دور «شمشون الجبار» الذي هدم المعبد على الغزاويين، ودفنهم تحت الركام، ليقف منتصراً فوق قبر كبير اسمه غزة، باعتباره ملكاً متوجاً لإسرائيل، يسلم مفاتيح «أورشليم» للمسيح العبراني الذي سيجسد مملكة السماء الإسرائيلية، بعد التهيئة لقدومه ببناء الهيكل الثالث، على أنقاض المسجد الأقصى.
وبالطبع، فإن نتنياهو لا يكف عن إبراز تناقضاته، من خلال مزجه الخطابين الديني والسياسي، لدغدغة المشاعر، مركزاً على كون إسرائيل ـ دينياً وثقافياً ـ تنتمي للحضارة الغربية في صبغتها اليهودية ـ المسيحية، وهي الصبغة التي يركز عليها نتنياهو الذي لا يكف عن الاغتراف من نصوص العهد القديم للكتاب المقدس، وهو الجزء المشترك بين الديانتين، وذلك بغرض الإشارة إلى الوحدة الدينية والثقافية – بل والسياسية – بين الغرب وإسرائيل.
ذات مرة تمثل نتنياهو نبوءات العهد القديم الواردة في سفر إشعيا، وامتلأ بنبوات التوارة، وتخيل السماء تطوى بين جنبيه، حين قال: سنحقق نبوءة إشعياء: «لن تسمع بعد، خرابًا في أرضك، سنمنح المجد لشعبك»، مضيفاً: «نحن أبناء النور وهم أبناء الظلام، وسيهزم النورُ الظلام». ويمتلئ نتنياهو بـ«روح القدس»، فيقتبس نصاً آخر من سفر أشعيا، يقول: «والآن اذهب، واضرب عماليق وحرم كل ما لهم، ولا تعف عنهم، بل اقتل رجلاً وامرأة، طفلاً ورضيعاً، بقراً وغنماً، والجمل والحمار».
وتتجلى الإشكالية هنا في كون نتنياهو أو «الملك بيبي»، كون هذا «الخارج من صفحات الكتاب المقدس» متهماً بالفساد والرشوة وخيانة الأمانة، وهي جرائم جسيمة، عدا عن تهم ترهيب الشهود الموجهة لزوجته سارة، وهو الأمر الذي يرى كثيرون أنه سبب تمسك رئيس الوزراء باستمرار الحرب على غزة، لضمان استمرار تهربه من الإدانة، مع بقائه في السلطة.
وبعد، فقد بلغت دولة الاحتلال بؤرة توترها، ووصل هذا «اللفيف الإسرائيلي» ذروة تناقضاته، وهي التناقضات التي بدأت تظهر في تسلط الحاكم واحتجاج الشارع، تصميم القيادة وتمرد الجنود، بذخ الإنفاق وتراجع الاقتصاد، تغول الحياة اللاهوتية وتراجع الحياة المدنية، العجرفة الداخلية ونذر العزلة الدولية. هناك مثل بريطاني يقول: «كلما كان الصعود عاليا كان السقوط قاسياَ».
وهاهي إسرائيل اليوم تعلو «علواً كبيرا»، حسب وصف القرآن الكريم، ولكنها «تصعد سريعاً نحو الهاوية»، حسب كثير من مفكريها.
عن "القدس العربي"
حرب اليمن.. ناصر ظالم أم مظلوم؟!
محطة مفصلية
من يفجر مخازن الأسلحة؟