آخر الأخبار


الخميس 15 مايو 2025
ذات زمان راودت مخيلة الفاشي الإيطالي بينيتو موسوليني أحلام استعادة الإمبراطورية الرومانية، تحرك لديه الشعور بالزهو القومي، واحتشد بتاريخ روما، واستعاد دوي انتصارات أوكتفيان أغسطس، وملأ جفنيه غبار الخيول المتسربة عبر سهوب أوروبا، متجهة نحو آسيا وأفريقيا، وهدير السفن التي حملت الجند في الأبيض المتوسط الذي رآه الدوتشي بحيرة إيطالية، رأى الزعيم الفاشي أنه مؤهل لإعادة إمبراطورية ماتت منذ قرون، ورأى في «الفتوحات الأوروبية» لرفيقه أدولف هتلر فرصة لا تعوض لتحالف امبراطوري قوي يعيد روما لقيادة العالم، فتحدث كثيراً عن روما «منطلقنا ومرجعيتنا، ورمزنا وأسطورتنا»، وعن آماله في بعث «إيطاليا الإمبراطورية».
على الضفة الأخرى كان حليفه أدولف هتلر ينطلق بسرعة نار اشتعلت في قش أوروبا، انطلق نحو النمسا، وتشيكوسلوفاكيا، وبولندا، وتوجه لغزو روسيا، وحرك قواته نحو الشمال الإسكندنافي، ثم صدم العالم بسقوط فرنسا في يده.
ومضت حكومة «الرايخ الثالث» في محاولة استنساخ الرايخين الأول والثاني، في الإمبراطوريتين: الرومانية المقدسة والألمانية، معتمداً على نظريات النقاء العرقي، وفلسفة السوبرمان، عند نيتشه الذي كان هتلر يستلهمه في قوله: «لا نريد إلهًا آخر غير ألمانيا نفسها»، الذي يعني حقيقة: «لا نريد إلهاً آخر غير هتلر».
وقبل الفاشي والنازي كانت قوات نابليون تتمدد في أوروبا وخارجها، وتذهب في اتجاه روسيا وشمال أوروبا وأفريقيا، وكانت أطماعه مع امتداد خطوط قواته، وكان يستنسخ تجارب امبراطورية سابقة، مهووساً بفكرة القيادة الإمبراطورية الفرنسية لأوروبا، في زمن ولى فيه عهد الملوك والأباطرة في فرنسا.
هذا الطموح الإمبراطوري القاتل أسلم موسوليني للرصاص ونابليون للاستسلام ومن ثم السجن، ليموت وحيداً في جزيرة القديسة هيلانة. وأما هتلر الذي قال: «يمكن لأي شخص التعامل مع النصر، ولكن الأقوياء فقط يمكنهم تحمل الهزيمة»، فيبدو أنه لم يكن من الأقوياء، إذ لم يتحمل الهزيمة، ولجأ للانتحار.
مات هؤلاء المغامرون، قتلهم طموحهم الذي توَّجهم أبطالاً في عيون كثيرة، رغم قتلهم الملايين، في مأساة تتكرر دون اعتبار أو اتعاظ، ليستمر التاريخ، ويخرج طامح آخر، يستلهم طامحاً قبله، ويلهم طامحين بعد، وينطلق قتلاً وتشريداً ودماراً، مجللاً بمواصفات البطولة، في تصورات الشعوب التي تنظر إلى أن المجرم هو من يقتل نفساً واحدة، لكن البطل هو من يقتل الملايين.
بنيامين نتنياهو امبراطور آخر، واحد من أولئك الطامحين المهووسين الذين يريدون إحياء رفات التاريخ، والعودة إلى زمن إسرائيل الكبرى، إسرائيل الافتراضية التي ترسمها مخيلته المنخورة بسوس مقولات دينية وتاريخية تنصدم مع الواقع المتغير.
يستدعي نتنياهو في أحد خطاباته نصاً توراتيا، في قوله: «يجبُ أن تتذكّروا ما فعله عماليقُ بكم، كما يقول لنا كتابُنا المقدّس. ونحن نتذكّر ذلك بالفعل…في غزّة وحولها وفي جميع المناطق الأخرى في إسرائيل.، باعثاً «سلسلة من الأبطال اليهود، التي بدأت قبل 3000 عام مع يشوع في لبنان».
إن نتنياهو هنا يسحب التاريخ من ذيله ليعيده، علَّه يرمم صورة «إسرائيل الكبرى»، ومقولات «شعب الله المختار»، في تصرف ربما كان جيداً لترميم جروح ذاكرة الهولوكوست، ولكنه لن يفيد في ترميم تصدعات هياكل دولة صغيرة زرعت قسراً في سياق مختلف، ويراد لها أن تتحول إلى «امبراطورية إسبارطية» جديدة، لا شك في أنها «تصعد سريعاً نحو الهاوية».
أما علي خامنئي وقبله علي خميني في إيران فقد خرجا من تلافيف زمن أقرب ما يكون للدراما التاريخية، وليس التاريخ الحقيقي، وكانا نتيجة عقائد أقرب ما تكون للأساطير الغامضة منها للأديان الملهمة.
وخلال العقود الماضية كرر مسؤولون إيرانيون مقولات كثيرة استلهموا فيها التاريخ الإمبراطوري لفارس، وحضارة الآريين، بعد أن هيأت بعض القوى الدولية – لأهداف محددة – للنظام في طهران فرص التمدد والانتشار، قبل أن تقرر هذه القوى تقليم هذا التمدد وإعادة النظام ـ ربما ـ إلى حدوده الجغرافية الطبيعية، وليس الحدود التي وصل إليها كورش والصفويون وغيرهم ممن تحاول التجربة الإيرانية المعاصرة استنساخ تجاربهم، في لا وعي دوغمائي، مدجج برؤى أيديولوجية، وطموح إمبراطوري، ومقولات دينية، وعقائد غيبية، نسخت من فلسفات وأساطير قديمة، ومزجت ببعض المرويات الدينية، ثم يراد لها أن تمثل حية في السياقات المعاصرة.
وقبل سنوات قال علي يونسي، مستشار الرئيس الإيراني الأسبق، حسن روحاني إن «إيران اليوم أصبحت إمبراطورية كما كانت عبر التاريخ وعاصمتها بغداد حاليا، وهي مركز حضارتنا وثقافتنا وهويتنا اليوم كما في الماضي».
إنه الشعور القومي المتضخم، والطموح الإمبراطوري المتعاظم الذي سكرت به إيران لسنوات طويلة، سكرت به بإرادة دولية، فيما هي توهم الناس أنها توسعت بقوة إلهية، قبل أن تفيق أخيراً على أن «النصر الإلهي» الذي زعمته لم يكن أكثر من «خطة دولية»، نفذت بموجبها طهران أهدافاً محددة، في إضعاف دول المنطقة، وتقسيم شعوبها، ونشر الفتن الطائفية بينها، قبل أن يضع الرئيس الأمريكي ترامب إيران كلها بين قوسين، ويخيرها بين وقف طموحها النووي أو مواجهة ضربة عسكرية كارثية، فيما نظامها ينصاع للتهديد، ويأتي للمفاوضات.
مشكلة هؤلاء المغامرين أنهم لم يدركوا حقيقة واضحة، وهي أن التاريخ لا يتكرر، تتشابه فصوله، لكنه لا يمكن أن يتكرر بالشروط والظروف ذاتها، فيما هم يحاولون استنساخ الماضي، وليس استلهام تجاربه، وهم عندما يحاولون ذلك فإنهم يقعون في مواجهة مهلكة مع عجلة التاريخ الذي إذا تكرر فإنه ـ حسب كارل ماركس ـ «يعيد نفسه في المرة الأولى كملهاة، وفي الثانية كمأساة»، وهذا ما حدث في المآسي التي أحدثها كل الذين استبد بهم طموحهم الإمبراطوري، وحاولوا تكرار التاريخ، واستنساخ التجارب، بدلاً من استلهامها.
وهكذا يلقي علينا التاريخ درسه العظيم الذي لا نتعلمه: الحكماء هم الذين يستلهمون تجارب الماضي في صناعة الحاضر، لا الذين يحاولون استنساخ تلك التجارب، وبعث رفاتها من الأضرحة القديمة.
دعونا نستذكر مثلاً يمنياً يقول: إذا غضب الله على نملة «أريشت»، أي أنبت لها ريشاً. ولكم أن تروا مصير النملة إذا طارت، في مصير «نمل إمبراطوري»، طار سريعاً إلى الهاوية.
*القدس العربي
أيها الموت... هذا صديقي ياسين البكالي، وليس مجرد فقيد
حمود النامس وأكمة العقاب
أخذ العلم بالتوازن الجديد في المنطقة
وساطة سلطنة عمان للحوثيين والنمط المتكرر
عن زيارة الرئيس ترامب إلى الرياض.
التهدئة في اليمن والحسابات الإقليمية