الخميس 29 مايو 2025
الوحدة اليمنية ووعي الذاكرة (الحلقة الأولى)
الساعة 01:31 صباحاً
توفيق السامعي توفيق السامعي

كمواطن يمني عاش شطراً من حياته في زمن التشطير، ومعظم سِنِيِّ عمره في زمن الوحدة اليمنية، ومراقب للأحداث ومعايش لبعضها، أكتب انطباعاتي الشخصية عن زمنين مختلفين من حياة اليمن بكل تجرد وإنصاف، كما عشتها وعايشتها، بعيداً عن أية توجهات أو توظيفات سياسية. أستذكر الأحداث والمحطات التي عشتها لحظة بلحظة ومحطة محطة، منذ أن وعيت الأحداث السياسية في البلاد، كنوع من التوثيق التاريخي الشخصي والعام، كما وعتها الذاكرة الشخصية وبعض ما ارتبط في المصادر التاريخية. والبداية من انقلاب 13 يناير في عدن عام 1986م.

 

انقلاب 13 يناير

في الثالث عشر من يناير عام 1986 كنت قد دلفت إلى سن الثانية عشرة للتو، وفي الصف السادس من المرحلة الابتدائية حينها.

كان مجتمعنا القروي البسيط من منطقة حوراء بمديرية سامع مجتمعاً حراكياً لأحزاب خفية لم نكن نستوعبها ولا ندرك ما هي ومن هي وما توجهاتها ولا أفكارها، سوى من بضع معلومات عن بقايا الجبهات التي تتسبب ببعض الأحداث، أو تقوم ببعض الملصقات والمنشورات، وكانت بعض الأحداث البسيطة تعلق بذاكراتنا ونفهمها على قدر عقولنا من خلال النقاشات اليومية في المجمعات القروية من مدارس ودواوين وتجمعات الطرقات، تنعكس عند الناس من خلال الإذاعات المحلية أو العالمية المنتشرة حينها، وكلٌ يدلي بدلوه في تفاسيرها، وكان والدي -يحفظه الله- مدمناً على إذاعة البي بي سي اللندنية ولا يفارقها، وكل التفاصيل في المنطقة العربية يحفظها عن ظهر قلب رغم بساطته وقلة تحصيله العلمي، إلا أنه كان يميز كثيراً من الأحداث ويحلل مآلاتها من خلال ما يسمعه من النقاشات المستفيضة في برامج البي بي سي ومونت كارلو والإذاعات المحلية والإقليمية.

 

فبالإضافة إلى ما سبق كانت مناطقنا تعتبر قريبة من الجنوب (حوالي 100كم إلى عدن)، حتى أن مواطنينا كانوا يسافرون إلى عدن راجلين مشياً على الأقدام أيام الاحتلال البريطاني وبعد الثورة قبل أن يتم إغلاق الحدود الشطرية. 

وكان أبناء تعز عموماً والحجرية خصوصاً أكثر سكان مدينة عدن وفاعلين فيها، وممن عاشوا أحداثها المختلفة، وأول من كون مقاومة للاحتلال البريطاني لعدن عقب احتلالها عام 1839م. وهذا ما صوره الشاعر عثمان أبو ماهر في أغنية أيوب طارش بقوله:

ياليت وانا طير ما يحمل مرور شانزل عدن فجر وشمسي في حجور

محد يقول لي علومك والطيور ولا يسائل الى أين من تزور؟!

لهذا القرب تأثير في كل مناحي الحياة؛ ثقافياً وإعلامياً وسياسياً وجماهيرياً واحتكاكاً مباشراً؛ فقد كانت هناك حرب شطرية بين الشمال والجنوب التي تدخلت فيها الكويت بالصلح، وشهدت بعدها ما بات يعرف باتفاق الكويت، أو مصالحة الكويت، ضمن خطوات كثيرة في إطار إعادة الوحدة اليمنية.

 

كانت مناطقنا تقع ضمن البث التلفزيوني لقناتي عدن وصنعاء، أو بمعنى آخر، تلفزيون اليمن الشمالي وتلفزيون اليمن الجنوبي، وكنا نسمع ونتابع كثيراً من خطابات السياسيين الشماليين وخاصة الرئيس علي عبدالله صالح وهو يهاجم الحزبية والتحزب، بينما كان السياسيون الجنوبيون يتحدثون عن الحزبية في كل شيء، ولا تخلو خطاباتهم من الإشادة بالحزبية والديموقراطية ومفردات الحزب الاشتراكي والتعريف به وبأهدافه، ولم نكن يومها نفهم التراشقات الإعلامية للجانبين.

 

فالحزبية كانت محرمة ظاهرياً عندنا في الشمال، لكنها كانت تمارس من تحت الطاولة، وتجري الكثير من الصراعات تحتها، عرفنا فيما بعد أن كل الأحداث إنما كانت حزبية بين أربعة أحزاب واتجاهات؛ الحزب الاشتراكي (اليسار) وكان في الشمال له أذرعته العسكرية المتمثلة في الجبهات وما عرف بجبهات المناطق الوسطى؛ القوميين بشقيهم البعثي والناصري، والإسلاميين المتمثلين في الإخوان المسلمين.

بينما كانت الحزبية تمارس في الجنوب بكل فخر وتعصب؛ ليس التعددية الحزبية بطبيعة الحال بل الحزب الواحد، بل ويُحرم غيرُها من الممارسات، غير أنها كانت حزبية الحزب الواحد، ولا صوت يعلو فوق صوت الحزب الاشتراكي، حتى أن السياسيين الجنوبيين المتحكمين بالسلطة من الحزب الاشتراكي المنبثقين عن الجبهة القومية طاردوا الناصريين المعروفين بمسمى جبهة التحرير، وكتموا كل صوت إسلامي سواء كان صوفياً أو مستقلاً أو إخوانياً، ولم تكن عندهم تعددية حزبية متاحة وشفافة.

 

وفي إطار الحزب الواحد داخل ما يسمى بالجبهة القومية جرت العديد من الانقلابات والتصفيات للسياسيين في أعلى هرم الحكم والدولة، وكانت وجبة تمارس بين حين وآخر كما سماها الرئيس الأسبق علي عبدالله صالح، وكانت الصراعات مستمرة ولا يقر للجنوب قرار، مثله مثل الشمال في عدم الاستقرار.

بينما كانت الصراعات السياسية الداخلية على أشدها داخل الحزب الإشتراكي بأجنحة مختلفة حدث انقلاب الثالث عشر من يناير من عام 1986م؛ ذلك الانقلاب الدموي الأخطر في الجنوب ككل الذي أدى إلى إضعاف الدولة في كافة مناحي الحياة، وترتب عليه العديد من الالتزامات الدولية والإقليمية والمحلية؛ لكنه كان سبباً مهماً في طريق الوحدة اليمنية.

كان حينها الرئيس علي ناصر محمد يقود تقارباً مع الشمال، كما فهمنا حينها، في مواجهة تيار داخل الحزب متشدد تجاه العديد من المسائل الداخلية والخارجية ومنها مع الشمال، مع أن كل السياسيين والأطراف في الجنوب كانت تتوق إلى الوحدة مع الشمال وتتغنى بذلك، ولا تخلو فعالية من فعالياتهم من الحديث عن الوحدة، ولا أدبية من أدبياتهم تخلو من الإشارة إلى الوحدة وضروراتها، وكانوا أكثر تمسكاً وشغفاً للوحدة، ومع أن منافس الرئيس علي ناصر حينها شخصية شمالية من محافظة تعز وهو عبدالفتاح إسماعيل، والذي كان من الأولى أن يكون أكثر تقارباً مع الشمال وأكثر ليونة تجاه مختلف القضايا معه إلا أنه كان العكس من ذلك!

 

كانت الأيديولوجية الحزبية الجديدة التي تبناها عبدالفتاح إسماعيل أكثر تشدداً وتباعداً تجاه الاتفاق على الوحدة لشعوره بالفارق الكبير بين توجه الحكم شمالاً وتوجه الحكم جنوباً؛ خاصة وأن الجنوب محسوب على القطب الشرقي الشيوعي السوفييتي، والشمال محسوب على القطب الغربي الرأسمالي، ومن هذا الباب كانت الوحدة في تلك الظروف مستحيلة؛ فالشطران على طرفي نقيض، وكان طموحهم أن يدخلوا الوحدة بعد الإطاحة بحكومة الشمال أو أدلجتها اشتراكياً!

 

بحسب ما نشر بعد هذا الانقلاب والصراع الدامي كان من ضمن ما نشر أن الرئيس علي عبدالله صالح أبلغ الرئيس علي ناصر محمد أن هناك انقلاباً يدبر ضده من أطراف داخل الحزب، وكنا مما سمعنا حينها أنه نصحه أن يتغدى بهم قبل أن يتعشوا به، ففعل.

 

مما أتذكره جيداً، وربما لم يتطرق له أو تجنبه عمداً علي ناصر في مذكراته، أن أحداث يناير وقعت بعد عودته من زيارة للشطر الشمالي، ويبدو أن اللقاء كان في تعز، أو هكذا علق في ذاكرتي حينها، ولذلك حسب الحزب الاشتراكي يومها هذه الأحداث أنها تمت بإيعاز من الرئيس صالح، فقد كان الحزب لا يريد التقارب حينها مع صالح أو الشمال حتى يتم تغيير أيديولوجيته.

 

علمنا بأحداث 13 يناير من ثلاث طرق:

- انقطاع بث تلفزيون عدن ولم نعد نشاهد القناة، وبعض إشارات من إذاعة عدن

- أثناء وصول أفواج المهجرين العسكريين والمدنيين من أنصار علي ناصر إلى بلادنا في منطقة خدير وسامع وخيموا فيها كنازحين

- من الإذاعات العالمية التي كان والدي مداوماً عليها صباح مساء وأثناء المقيل؛ فقد كان أول من أخبرنا بحدوث انقلاب في عدن.

عند عودة البث لقناة عدن كان أول خطاب لعلي سالم البيض، الذي تم انتخابه أميناً عاماً للحزب الاشتراكي خلفاً للسلطة السابقة التي تم الانقلاب عليها والإطاحة بشخصياتها ورموزها، هو تهديد سلطات صنعاء بأن يسقيها من نفس الكأس؛ فهي من تقف وراء الانقلاب ودعم الانقلابيين واتهام الرئيس صالح شخصياً بتدبير الانقلاب!

 

وكان مما قاله، مما أذكر بعض نصوصه: "رأس الأفعى في صنعاء، وسنضرب رأس الأفعى في صنعاء"!

هذه النقطة تحديداً كانت أكثر النقاط التي علقت بذاكرتي لكونها ستترتب عليها أشياء كثيرة في المستقبل، وعلى رأسها حرب صيف 1994، كما سيأتي في موضعه، ودافعاً لي للالتحاق بالجيش أواخر عام 1990، بعد تحقيق الوحدة.

 

فقد كان جيش الشطر الجنوبي وتسليحه أقوى تدريباً وإمكانات وتسليحاً حديثاً؛ حيث كان يمتلك صواريخ "سكود" الروسية حديثة الصنع والتي لا يمتلكها الجيش الشمالي، وكانت تمثل حينها أحدث الصواريخ التي زودت بها روسيا عدن.

 

مما أظنه في هذا الخطاب، أو إشارات لخطابات بعده أن علي سلم البيض أشار إلى النازحين في منطقتنا وعسكرتهم هناك كمهدد لاجتياح مرة أخرى (لا أتذكر نص الكلمات بالضبط) لكنه بإشارته تلك بث الرعب في نفوسنا كأطفال صغار لم نعرف حروب الدول.

 

كنا كأطفال صغار السن لكننا كنا كباراً في التفكير مع زملاء آخرين في المدرسة وفي القرية؛ نفكر كيف ستكون مواقفنا في هذه الحرب المزمع اشتعالها، وكيف إذا تعرضنا لحصار أو انعدام المواد الغذائية كيف سنعوض عن ذلك!

 

مما زاد إرعابنا في تلك الفترة أن اشتراكيي منطقتنا تحديداً، كانوا يبثون بملصقاتهم التي تفاجئنا في جدران وأبواب فصول المدرسة وقوارع الطرقات ما يتماهى مع تلك الخطابات على ما أذكر، فكانت هذه الأمور جديدة علينا في المنطقة؛ فقد كان اشتراكيو منطقتنا هم الأكثر نشاطاً وتنظيماً قبل أن نعرف الحزبية والتنظيمات السياسية، وكان منظر العسكر المخيمين في "خدير" يكمل ما نقص.

 

بعد عودة بث قناة عدن بقيت معظم برامجهم التعريف بالانقلاب وأحداثه، وكيف صفيت الشخصيات، وكيف كان القتال يدور في المدن من حارة إلى حارة، ومن مبنى لآخر، وكيف تمكنت حراسة علي ناصر من قتل المجتمعين في الأمانة العامة للحزب الاشتراكي، وكيف نجى علي سالم البيض من القتل باختبائه تحت طاولة الاجتماعات، ويظل يردد أكثر من شهر، وكأنه كان تبريراً لأحداث الانقلاب والدفاع من الطرف الناجي من الأحداث وخاصة علي سالم البيض.

....يتبع


إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
آخر الأخبار