آخر الأخبار


الثلاثاء 24 يونيو 2025
في زمن اختلطت فيه المعايير، وتماهت فيه الشعارات حتى صار الصمت بديلا عن العقل، برز الدكتور فضل مراد صوتا مختلفا، لا لأنه الأعلى ضجيجا، بل لأنه الأوضح والاعقل مقصدا والأشد تمسكا بمنهجٍ نقدي دؤوب لا يعرف مسايرة الجماعة ولا يستسلم لابتزاز الحشود.
بمعنى أدق هو ليس قديسا، ولا داعية كاريزما تحيط به هالة من التصفيق، بل هو رجل شق طريقه وسط ركام كثيف من الشعارات، باحثا عن أرض صلبة يقف عليها وهو يخاطب العقل لا العاطفة، النص لا الحكاية، الميزان لا الغضب.
و.. من رحم المأساة اليمنية، انبثق ،لكنه لم يُصب بهوس العنف أو الانتماء الصارخ لأي طرف متنازع.
تشرب العلم الفقهي المعاصر، وارتوى من تراث نقدي كان لفترة طويلة حكرا على كبار المحققين.
وبينما انشغل الآخرون بتسييل الدين في صراعات السياسة، آثر هو صعودا شاقا نحو فقه الواقع، رافضا أن يُختزل الدين في معسكرٍ أو أن يُطوَّع للمعارك الجزئية باسم الأمة أو الممانعة أو الدولة.
والشاهد أنه في مقاله الذي أحدث ضجة واسعة عن الحرب الإسرائيلية-الإيرانية، لم ينحُ منحى التهليل لأي من الطرفين. لم ينصر "غزة بإيران"، ولا اختبأ وراء "الشرعية" ليهاجم الح..وثي، بل تحدث بلغة الفقيه الذي يرى من فوق الموج، لا من تحت الرصاص.
نعم..قالها واضحة: لا إيران تمثل الإسلام، ولا إسرائيل تنقذ أحدا. كلاهما – حسب تعبيره – خطر وجودي بوجوه مختلفة، ومطلوب من الأمة أن ترتفع فوق ردود الأفعال الغريزية إلى تحليل شامل يقيم الموازنة بين المصالح والمفاسد، ويمنع إعادة هندسة المنطقة بيد العدو.
ولكن لعل ما يميز مراد ليس فقط موقفه السياسي، بل منهجه.
فالرجل يقود مراجعة جريئة لتراث الفضائل والروايات، لا بنزعة تفكيكية عبثية، بل بنفس علمي يريد حماية الحديث من التوظيف السياسي.
ولقد انتقد في بحثه الذي أثار جدلا كبيرا تسييس الفضائل، وحذر من استدعاء الروايات التاريخية لبناء شرعيات معاصرة.
وفي الوقت الذي يزعم فيه البعض الدفاع عن الصحابة بتكفير من خالفهم أو بتهشيم الآخر، خرج مراد من هذا النفق إلى رؤية أكثر اتزانا: الصحابة لا يحتاجون إلى شهادة حسن سلوك من المعاصرين، ولا تُختبر فضائلهم بمنطق السجال المذهبي، بل تُحترم كجزء من ميراث الأمة الأخلاقي الذي لا يصح تحويله إلى وقود سياسي.!
طبعا قد لا تتفق معه في كل التفاصيل، وربما تراه حادا أو صادما في بعض آرائه، خصوصا حين يحكم على عشرات الأحاديث المشهورة بأنها ضعيفة أو لا تصح.
لكنك في المقابل لا تملك إلا احترام شجاعته في قول ما يراه حقا وفق أدوات الاجتهاد، وليس تبعا لريح المزاج أو رضا الحشد.
بمعنى أدق لم يتردد في نقد الروايات حول "باب خيبر" أو "حديث الغدير" أو "حديث الكساء" رغم حساسيتها عند جماعات متعددة، !لأنه يرى أن صدق المنهج أهم من هيبة الأسطورة.
لكن مراد لا يهرب من الواقع ولا يذوب فيه.بب يكتب عن غزة بلغة الحق لا التقديس، ويحذر من الطائفية بلغة الوعي لا التبرير.
فيما يرى أن المشروع ال..صهيوني خطر، لكنه ليس الوحيد، وأن المشروع الشيعي كذلك خطر حين يتحول إلى أداة للتوسع والهيمنة، لكنه لا يُواجه بالمشاعر، بل بالمشروع المقابل، مشروع الدولة والعقل والتوازن.
وفي كل ذلك كما قرأته وتابعته منذ أكثر من سنوات عشر، يبقى حالة خاصة لعالم مسلم يمكن أن يختلف معه الناس، لكنهم لا يملكون إنكار نزاهته الفكرية، وحرصه العميق على أن يبقى الإسلام فوق الاستقطاب، وأن تُقرأ النصوص بعقلية الأمانة لا الغنيمة.
أعني أنه ليس شيخ فتنة، ولا بوق نظام، ولا محاربا خياليا في معارك تويتر، بل رجل اجتهد أن يكون عالما في زمن الضجيج، ومفكر لا يتبع الهتاف.
بل في زمن يتحول فيه الدين إلى شعارات تُحمل على بنادق المليشيات أو تُوزع في منشورات الأحزاب، يظل مراد – على كل ما قد يُؤخذ عليه – علامة على أن الصوت العلمي المستقل ما زال ممكنا، ولو بصوت متعب، ولو من مكتبٍ في الدوحة، ولو في مواجهة كل محاور الاستقطاب.
كذلك هو ليس معجزة، لكنه استثناء، ولا يُطلب من الاستثناء أن يكون كاملاً، بل فقط أن يذكرنا بأن الطريق إلى الحقيقة يمر عبر الشجاعة، لا الانحياز.
وبما انناوفي زمن تتطاير فيه الكلمات كالرصاص، ويُسحق فيه العقل بين مطرقة الولاء وسندان التخوين، يخرج صوت الدكتور فضل مراد كأنه نشاز جميل. لا لأنه يتحدث بما نحب أن نسمعه، بل لأنه يُقلق ما نظنه يقينا، ويجرح ما نتصور أنه مقدس بنصه، بينما هو في الحقيقة ملبَّس عليه بسياقاته وأهوائه وأدلجته.
على إن هذا الشيخ لا يُشبه الشيوخ، ولا يُغريك بخفة ظله أو تراثية هندامه أو تسويقه لنفسه كمخلص أو حكيم أزمنة آخر الزمان.
وفضل مراد: رجلُ جدلٍ في زمن السكون.
فهو رجلٌ اختار – دون إعلان بطولة – أن يمشي على الحبال المشتعلة، في مجتمعات تتنفس التقديس، وتُخيفك من الشك، وتمنحك رضاها إن رددت ما يقولون، وتلعنك إن فكرت، أو ناقشت، أو راجعت.
هنا تماما، في هذه المساحة المحرقة، قرر أن يكتب، أن يُحاكم الروايات، أن يفكك التوظيف السياسي للدين، وأن يذكر الأمة أن العدل لا يكون في الموقف فقط، بل في اللغة التي نصف بها الموقف، وفي الطريقة التي ننتقي بها النصوص.
بل ليس سهلا أن يكون المرء يمنيا، سنيا، فقيها، ويقول علنا: لا تقف مع إيران لأنها دعمت غزة، ولا تكن مع إسرائيل لأن عدوك عدونا، بل قف على أرض الدين لا العاطفة، وانظر للمشهد بتوازن، لا بعين من يبحث عن انتصار في كل حرب ليغطي على هزائمه الداخلية.
وبالتأكيد هذا الموقف وحده كاف ليغضب منه الجميع، لكنه لم يتراجع. لا لأنه عنيد، بل لأنه يرى أن الولاء للأمة لا يُبنى على الكراهية، وأن فقه الحرب لا يُكتب بحناجر القنوات، بل بعقول تحفظ الموازين وتحذر من الانزلاق إلى حيث لا عودة.
من هنا فإن الرجل ليس ضد أحد بقدر ما هو ضد الاختزال. ضد أن تتحول المعارك إلى "فضائل"، وضد أن يُستدعى عليّ بن أبي طالب ليُقاتل في حرب تويتر، أو يُستخرج من قبره ليكون قناعا للطعن أو التمجيد. وفيما رأيه في الفضائل شائك، وربما صادم. لكن صدمته هذه لا تأتي من رغبة في كسر الصور، بل من إيمانه أن الدين يجب ألا يكون ميدانا للمكايدة، وأن أحاديث الفضائل إن لم تُدرس بميزان العلم، فستُستخدم غدا في ترسيخ أساطير قاتلة لا علاقة لها بالمرويات ولا بالنبي ولا بالصحابة.
والحال أننا في عالم ينقسم إلى صفين: من يعبدون الصحابة ومن يكفرونهم، وقف فضل مراد ليقول: الصحابة بشر، فضلهم ثابت لكن لا يمنحهم ذلك حصانة ضد النقد في أفعالهم الدنيوية، ولا يُلزمنا بتوظيفهم كأدوات لخدمة مشروعات اليوم.
بمعنى آخر هو لا يسقط هيبتهم، لكنه يرفض تأليههم.
وفي هذا هو يقاتل – وحده تقريبا – على جبهة المهزلة التي يحول فيها البعض سيرة علي إلى صراع موروث بين سفهاء غوغاء، لا يعرفون من التاريخ سوى الشتيمة.
وربما أكثر ما يلفت في شخصية مراد ليس اجتهاده الفقهي، بل تلك الصلابة النفسية النادرة: ألا تكون مع هذا الفريق ولا ذاك، وتبقى حاضرا، محترماً، تتلقى النيران ولا تتراجع عن المبدأ.ةاي إن لديه إحساسا عميقا بأن الكلمة مسؤولية، وأن الصمت تواطؤ، وأن المتدين الذي يهرب من أسئلة الحاضر باسم الغيب، هو مجرد مؤجل للهزيمة.
وإذ هذا لا يعني أن فضل مراد بلا أخطاء. فهو أحيانا قاس في أحكامه، يتوسع في إسقاط الصحة عن الأحاديث حتى يُخيل للسامع أنه يهدم كل شيء، مع أن له منهجا واضحا في ذلك، مبنيا على نقد السند والمتن والتوظيف، لا على الهوى أو نفي ما لا يعجبه. لكن لأنه يفعل ذلك في منطقة شديدة التوتر، فحساباته تصبح أصعب، ونصوصه تُقرأ في أتون الموقف لا في سياق العلم.
ومع ذلك، فإنك حين تنتهي من قراءة كلامه – وإن اختلفت معه – لا تشعر بالضيق من غرور أو من رغبة في تصدر، بل تخرج بشيء نادر: الاحترام. لأنه يقدم لك خطابا نظيفا، غير ملوث بالهتاف ولا بمصالح التنظيمات، ولا بوهج الشهرة، ولا بجنون الجماهير. بل هو ببساطة، كما وصفه البعض: "رجل دين يفكر"، وهذه صفة كانت شائعة يوما، ثم انقرضت، أو كادت.
لنخلص إلى أن فضل مراد لا يطلب من أحد أن يتبعه، لكنه يطلب من كل أحد أن يفكر.
وهذا في زمن "القطيع" فضيلة لا يمكن إنكارها.
ويا لها من لحظة فخر خفية:
حين رأيته على الشاشة يتكلم، ويمن الحكمة يفيض من عينيه ونَفَسه..
سرني أنه قومي، يمنيٌّ مثلي، وأن خلف نظرياته القاسية قلبا يضج بحب الأرض.
هذا وحده يكفيني... أن يكون أحدنا، يمشي في دهاليز الفكر،
ويحمل اليمن في صوته لا كيافطة، بل كدم حيّ لا يُخفى.
فتحية من القلب...
له، ولليمن الذي يسكنه ويسكننا.!
التصريحات السياسية في مناطق التوتر: حين تتداخل الرسالة مع التصعيد
فضل مراد: العاقل الذي مشى فوق الحبال المشتعلة!
صنعاء.. برزخ رمادي لا يشبه الحياة ولا الموت
سلامات أهلنا في قطر!
لعنة الجبال تشرد المرشد