آخر الأخبار


الاثنين 23 يونيو 2025
لم يكن قرار البنك المركزي في صنعاء بإيقاف التعامل مع بنك الكريمي سوى فصل متقدم من فصول العبث المنظم الذي يتغذى عليه المشهد اليمني منذ سنوات. فالقرار، وإن جاء بتوقيع ميليشيا الخوثيين، إلا أن جذوره تمتد إلى أبعد من صنعاء. تمتد إلى حيث صمت التحالف، وتواطؤ العجز، وشرعية حُشرت بين جدران القرار المعلّب، وأصبحت عاجزة عن الفعل، إلا بما يُسمح لها به.
فالمشكلة في اليمن لم تكن يوماً فيمن يطلق الرصاصة، بل فيمن يحمّل السلاح ويسمح له بالبقاء على منصة إطلاق النار. ترك التحالف منذ 2015 الملف اليمني يتعفن بين يديه، حين قرر أن يدير معركة استعادة الدولة بطريقة مرتجلة غير مبنية على أسس علمية ولا قراءات من مراكز بحوث تضع خارطة طريق متماسكة، بل بعقلية ترى في الاقتصاد والأمن ملفات هامشية يمكن تأجيلها إلى حين. لكن ما يُهمل في بدايته، يتحوّل إلى عبء في منتصف الطريق.
وكان يفترض أن يشكّل نقل البنك المركزي من صنعاء إلى عدن نقطة تحوّل في مسار المعركة الاقتصادية. إلا أن التحالف تعامل مع الأمر بذات المزاج الذي يدير به الدعم العسكري.. وديعة ببيان، وتحريك عملة بمكالمة، وقرار اقتصادي لا يصدر إلا بموافقة، أو تغريدة من معالي السفير. فولد في عدن بنك مركزي بلا صلاحية تحريك سعر صرف، ولا إدارة نقدية مستقلة، ولا قدرة على ضبط السوق إلا بما تقرره الرياض وأبوظبي.
وفي هذا الفراغ، تمدد الخوثي مالياً، وأدار السوق السوداء كأكبر مؤسسة مالية غير رسمية في اليمن. ومع انكماش دور الشرعية، تحولت صنعاء إلى مركز لتحديد قيمة الريال في عدن. لم تكن حكومة الشرعية أكثر من سلطة موكّلة لا تملك من قرارها شيئاً إلا بما يُملى عليها. قيادة صُممت على مقاس الحاجة، وأحكم حولها طوق سياسي وأمني يضمن بقاءها أسيرة الهامش. ومرة واحدة فقط حاول البنك المركزي بعدن صناعة قرار مستقل، فلم يصمد طويلاً، وأُعلن التراجع عنه من منصة المبعوث الدولي، ليغيب بعدها المحافظ ويعود خالي الوفاض.
هنا تتبدّى الحقيقة المُرّة التي يتجنب كثيرون قولها.. أن مجموعة محدودة من الخبراء "عسكريين واقتصاديين وأمنيين من إيران وحزب الله" نجحوا خلال سنوات قليلة في إدارة معركة اليمن لصالحهم، بتكلفة أقل وفعالية أكبر، وبتكتيك فوري وذكي. بينما التحالف العربي، بكل عتاده، وأمواله، وأدواته، وشرعيته الدولية، ظل يتخبط في إدارة مترددة، وقرار سياسي هش، وعقلية أمنية قديمة، ورؤية اقتصادية غائبة.
الخوثيون، بدعم مباشر من هؤلاء الخبراء، أسّسوا نظاماً أمنياً ومصرفياً خفياً متشابكاً في صنعاء، سيطر على دورة المال، وقرار السلاح، ومزاج السوق، وحتى الرأي العام. فيما انشغلت الشرعية والتحالف بحروب إعلامية جانبية، وسباقات بيانات وتصريحات موسمية.
ومثلما سمح التحالف بتعدد المرجعيات في الملف الاقتصادي بين مركزي صنعاء وعدن وشركات الصرافة والسوق السوداء، سمح كذلك بانفلات الملف الأمني وتعدد القوى العسكرية والأمنية. فصار لعدن أكثر من جيش، ولكل مربع سلاحه، ولكل قوة مزاجها الخاص. لم تعد هناك دولة، بل مراكز قوى متناحرة، وأجهزة أمنية متداخلة، وقرارات تخضع لحسابات الولاء.
في هذا المناخ المختنق، جاء قرار الخوثي ضد الكريمي ليكشف هشاشة ما تبقى من النظام المالي. فالكريمي لم يكن مجرد بنك، بل شرياناً نقدياً يربط بين الشمال والجنوب، والمغتربين بأسرهم، والمنظمات بموظفيها. وحين أوقف الخوثي التعامل معه، انهار سعر الصرف في عدن وقفز الريال السعودي خلال ساعات. لأن الدورة النقدية في اليمن، مهما حاولوا تفكيكها، ما تزال مترابطة عضوياً. وما يُقال عن انفصال اقتصادي بين الشمال والجنوب كذبة يرددها السياسيون ويتاجر بها الصرافون.
والتحالف، في كل هذا، يمارس دور المتفرج الحذر. يصدر بيانات دعم، ويوزع وعود تعويم، ويمنح وديعة كل عامين. لكنه لم يدرك أن المشكلة لم تكن يوماً في سعر الدولار، بل في تعدد المرجعيات التي تدير الدولة، وأن الفشل الأمني هو الوجه الآخر للفشل الاقتصادي. فلا يمكن لدولة أن تضبط عملة في سوق تحرسه قوى مشتتة الهدف، ولا أن تدير نقداً في ظل سماسرة الحر ب.
والمفارقة، أن التحالف، الذي تولى الملف اليمني أمام الأمم المتحدة منذ مارس 2015، واعتبر نفسه المسؤول عن إعادة الاستقرار، هو ذاته من ترك الشرعية بلا قرار، والاقتصاد بلا إدارة، والأمن بلا منظومة. ثم يريد لهذا البلد أن ينجو من الانهيار، أو ربما هكذا يوهم نفسه.
اليوم، بعد قرار الكريمي، لم يعد يكفي أن نلوم الخوثي، ولا أن نعلّق العجز على شماعة الانقلاب. فالجميع شركاء في الجريمة. تحالف لم يحسم، شرعية لم تقرر، وسماسرة حرب يتقاسمون ما تبقى من فتات اقتصاد يحتضر.
ليست هذه أزمة نقدية.. بل فضيحة سياسية وأخلاقية يدفع المواطن ثمنها كل يوم. بين سعر صرف ينفلت، وسوق يتحكم به الأقوياء، وشرعية لا تتلقى قراراتها إلا عبر مكالمات. والكارثة ليست أن الخوثي أوقف بنك الكريمي.. بل أن لا أحد قادر على منعه.
إيران لن ترد بضرب قواعد للولايات المتحدة
الحوثي آخر صاروخ في يد إمبراطورية مأزومة
السيادة انتهكت اللغة الميته
القرن الرابع عشر.. ينهار
لماذا لا يتحفظ اليمن على بيان عربي يتجاهل معاناته؟