خير الله خير الله

قام في المنطقة واقع جديد ولد من رحم حرب غزّة التي كانت منطلقا  لتغييرات كبيرة هي الأولى من نوعها في الشرق الأوسط والخليج منذ الزلزال العراقي في العام 2003.

كان من نتائج الحرب الأميركية على العراق، بغض النظر عن الموقف من نظام صدّام حسين البعثي – العائلي وما ارتكبه، حصول خلل على صعيد التوازن الإقليمي. بكلام أوضح، اختل التوازن الإقليمي لمصلحة إيران التي سلّمتها إدارة جورج بوش الابن العراق على صحن من فضة قبل 22 عاما. لم تكن الحدود بين العراق وإيران حدودا بين دولتين، كما قال الرئيس الفرنسي الراحل فرنسوا ميتران. كانت حدودا عمرها مئات السنين بين “حضارتين كبيرتين هما الحضارة العربية والحضارة الفارسيّة” على حدّ تعبير ميتران. في الواقع أدى سقوط الحدود بين العراق وإيران واجتياح الميليشيات المذهبيّة للبلد إلى انطلاقة جديدة للمشروع التوسّعي لـ”الجمهوريّة الإسلاميّة”. لم يتوقف الاندفاع الإيراني، بطابعه التوسّعي، إلّا في أواخر العام 2024 نتيجة هزيمة “حزب الله”، وهو لواء في “الحرس الثوري” كان يحكم لبنان، وسقوط النظام السوري التابع لإيران إثر فرار بشّار الأسد إلى موسكو.

هل من مجال الآن لتصالح العرب مع الواقع الجديد، المتمثل في قيام توازن إقليمي جديد، أم يعيشون، كما كان يعيش معظمهم، في عالم منطق اللامنطق. خرج بعض العرب من هذا المنطق الأعوج لكن قسما من هؤلاء ما يزال متمسكا به. سيكون لذلك تأثير سلبي على قمة بغداد التي من المقرّر انعقادها قريبا جدا. يفرض التوازن الإقليمي الجديد على القمة أسئلة كثيرة على القمة الإجابة عنها بدل الهرب منها وكأن شيئا لم يتغيّر في المنطقة والعالم، خصوصا مع زوال النظام العلوي في سوريا وسقوط دولة “حزب الله”، وليس دويلة الحزب، في لبنان.

أخذ هذا العالم، عالم منطق اللامنطق، المجموعة العربيّة في خريف العام 1977 إلى الخضوع لإرادة نظامي البعثين السوري والعراقي وابتزازهما. حصل ذلك بالذهاب إلى الاعتراض على زيارة الرئيس أنور السادات إلى القدس وإلقاء خطاب أمام الكنيست. خضعت المجموعة العربيّة للبعثين السوري والعراقي اللذين تصالحا فجأة بمجرد ذهاب الرئيس المصري إلى القدس في زيارة مهدت لاتفاقي كامب ديفيد في أيلول – سبتمبر من العام 1978 ثم لمعاهدة السلام المصرية – الإسرائيلية في آذار – مارس 1979.

وقتذاك، كان يحكم حافظ الأسد سوريا وكان يحكم العراق الثنائي أحمد حسن البكر – صدّام حسين. قاد البعثان المجموعة العربيّة، عن طريق التهديدات والابتزاز، إلى مقاطعة مصر ونقل مقرّ جامعة الدول العربيّة إلى تونس. لم يكن ذلك سوى تعبير عن رغبة في الهرب من طرح الأسئلة الحقيقية من نوع لماذا ذهب السادات إلى القدس؟ هل كان أمام مصر، في ضوء أزمتها الاقتصاديّة، خيار آخر لاسترجاع أراضيها المحتلة، بما في ذلك النفط والغاز في سيناء، غير طريق الدبلوماسية والاتكال على الوسيط الأميركي بدل اعتماد خيار اللاحرب واللاسلم؟

كان خيار حال اللاحرب واللاسلم خيار حافظ الأسد الذي عرف كيف يتلاعب بالبكر وبصدّام. أراد الأسد الأب الرهان على الاحتلال الإسرائيلي للجولان من أجل المحافظة على النظام العلوي في سوريا. لم يرد حافظ الأسد استعادة الجولان يوما. اختلق كلّ الأعذار، التي يمكن اختلاقها، كي يسهّل على إسرائيل ضم هضبة الجولان المحتلة منذ العام 1967. أي من أيام كان حافظ الأسد وزيرا للدفاع في سوريا.
 

لن يكون من معنى لقمة بغداد للعام 2025 في حال لم تكن قمة التصالح مع الواقع بدل الهرب منه. على سبيل المثال وليس الحصر لا تستطيع القمّة تجاهل مسؤولية “حماس” عن تحويل غزّة إلى أرض منكوبة، أي إلى أرض طاردة لأهلها. لم يكن في استطاعة إسرائيل تنفيذ مشروع تدمير غزّة لولا “طوفان الأقصى”. ليس أمام القمّة العربية غير إدانة “حماس” التي يبدو أنّها لا تزال مصرّة على خدمة الوحشية الإسرائيلية ورغبات بنيامين نتنياهو عبر الاستمرار في احتجاز رهائن إسرائيليين.

تستطيع قمة بغداد إدانة إسرائيل من اليوم إلى ما شاء الله، لكنّها لن تستطيع خدمة القضيّة الفلسطينية من دون موقف من “حماس” وممارساتها، كذلك من ممارسات أطراف تصرّ على التعامي عن الواقع، كما يفعل عبدالفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة في السودان. يهرب البرهان، الضابط الإخونجي (نسبة إلى الإخوان المسلمين)، من مأزقه العسكري والسياسي، إلى مهاجمة دولة الإمارات العربيّة المتحدة على الرغم من كلّ المساعدات التي قدمتها للسودان. فعلت الإمارات ذلك من منطلق أنّ لا خروج من حرب الإخوة في السودان من دون اعتماد الدبلوماسية بدل السلاح. أثبتت الأحداث أن لا نهاية للحرب السودانية سوى عبر حل سياسي في غياب عجز القوات التي يقودها البرهان عن القضاء على “قوات التدخل السريع” التي يقودها محمد حمدان دقلو (حميدتي).

ما ينطبق على البرهان، ينطبق على النظام الجزائري العاجز، مع جنرالاته، عن الخروج من عقدة المغرب ومن نجاحه في استعادة أقاليمه الصحراوية سلما. لا يزال النظام الجزائري الذي تتحكّم به مجموعة عسكريّة يشنّ حرب استنزاف على المغرب بدل العمل على دعم الاستقرار في منطقة شمال أفريقيا.

من المستبعد خروج قمة بغداد عن عالم منطق اللامنطق. يحتاج ذلك إلى شجاعة كبيرة تفرض اتخاذ قرارات من نوع الاعتراف بأنّ النظام الإيراني يفاوض «الشيطان الأكبر» الأميركي من منطلق خسارته كلّ الحروب التي قرّر خوضها على هامش حرب غزة التي بدأت بـ»طوفان الأقصى» في السابع من تشرين الأوّل – أكتوبر 2023. أدت خسارة إيران لحروبها إلى توازن جديد على الصعيد الإقليمي. بات على «الجمهوريّة الإسلاميّة» الدفاع عن النظام القائم في طهران، وهو نظام اعتاد تصدير أزماته إلى خارج الحدود. هذا جديد المنطقة في أيامنا هذه التي تنعقد فيها قمة بغداد التي تشارك فيها دول أخذت علما بما حدث ودول أخرى ما زالت في عالم منطق اللامنطق.

نقلا عن "العرب"