الجمعة 16 مايو 2025
صراعُ تعرَّضَ للسطو ..وباحثُ يغضُّ الطرف 
الساعة 10:55 مساءً
بلال الطيب بلال الطيب

حظيتْ التطوُّراتُ السياسيَّةُ للصراعِ الجمهوريِّ الإماميِّ - في ستينيَّاتِ القرنِ الفائتِ - بدراساتٍ مُستفيضةٍ من قِبَلِ عددٍ من الباحثين اليمنيِّين، والعربِ، والأجانبِ، في حين ظلَّتِ التطوُّراتُ العسكريَّةُ لذلك الصراعِ حبيسةَ ذواكرَ مَن عايشوها، ومُهملةً في سجلاتِ عمليَّاتِ وزارةِ الدفاعِ، وما تسرَّبَ من تلكَ التطوُّراتِ - في هذا الكتابِ أو ذاكَ - لم يكنْ سوى شذراتٍ عابرةٍ، محدودةِ الإلمامِ، وبلا تراتبيَّةٍ تاريخيَّةٍ جامعة.  
صدمةٌ كبيرة 
كباحثٍ مُتخصِّصٍ في التاريخِ اليمنيِّ، كرَّستُ جهودِي - خلالَ الأعوامِ الـ 17 الفائتةِ - للتعمُّقِ أكثرَ في تفاصيلِ ذلكَ الصراعِ، والتركيزِ على الجانبِ المُهملِ والمنسيِّ منه، المُتمثِّلِ في تطوُّراتِه العسكريَّةِ، واستطعتُ - بحمدِ اللهِ وتوفيقهِ - أنْ أجدَ له صيغةً تراتبيَّةً جامعةً، وقدَّمتُهُ بلغةٍ سهلةٍ مُختزلةٍ، ورصَّصتُ حروفَهُ في الثلاثةِ الفصولِ الأولى لكتابِي عن حروبِ اليمنِ المُعاصرةِ، وهو الكتابُ الذي يتكوَّنُ من جزئين، وثمانيةِ فصولٍ، وسيصدرُ - إنْ شاءَ اللهُ - قريبًا، وعنونتُهُ بـ (الدوَّامة.. حروبُ الثورة.. الجبهة.. الوحدة.. الإمامةُ الجديدة).  
 غير الشهادات الحية، عُدت إلى مئات المَصادر، والمَراجع. وكم كانت سَعادتي غَامرة حين وجدت قبل ثلاث سنوات كتابًا صدر عن المركز الديمقراطي العربي في برلين - ألمانيا، يوليو 2022م، حمل عنوان: (التطورات العسكرية والسياسية في اليمن 1962 - 1970م)، للباحث العراقي د. يحيى محمد زاير الكورجي، وكم حزنتُ - في المُقابل - لعدم تناول أي من الباحثين اليمنيين لتلك التطورات. إلا أنَّ كلا الشعورين سريعًا ما تبددا؛ خاصة حينما اكتشفت أنَّ ثمَّةَ باحثًا يمنيًا مَغمورًا تناول الموضوع قبل 21 عامًا، وكان صاحب السبق، وأنَّ الباحث العراقي المعروف لم يكن سوى سارقٍ من العيارِ الثقيل. 
أكثر ما شدَّ انتباهي في دراسة الكورجي المَسروقة، وجود شهادات لأشخاص عَاشوا تفاصيل ذلك الصراع، وحين عَودتي لقائمة مَصادرها في الحواشي السفلية، وجدتها مَأخوذة من دراسة يمنية عنوانها: (الصراع الجمهوري الملكي في اليمن وأبعاده العربية والدولية 1962 - 1970م)، وهي أطروحة دكتوراه تقدم بها الطالب عبدالحميد عبدالله حسين البكري، وأشرف على تقديمها الأستاذ الدكتور عبد الأمير هادي العكام الحميداوي، كلية التربية، جامعة بغداد، مايو 2004م.
ولم يمض من الوقت الكثير، حتى حصلت على الدراسة اليمنية، وكم كانت صدمتي كبيرة حين وجدت أنَّ الباحث العراقي يحيى الكورجي سرقها كاملة، بعد قام بحذف مقدمتها، وغَيرَّ عنوانها الرئيسي، وبعض عناوينها الفرعية، وأضافها لقائمة إنجازاته!
حيرة الانتظار
إعادةُ فهمِ التاريخِ هي الخطوةُ الأولى على طريقِ بناء المُستقبل، والباحث الحقيقي هو من يَفهم الحادثة التاريخية، ويفسرها، ويربطها بما قبلها وما تلاها من أحداث، ويستنبط، ويُقارن، ويُشكك، ويُحلل، ويتجنب الروايات المُتناقضة، والمَشكوك في صحتها، ويُقدم خُلاصة فهمه بلغة بسيطة، مُرتبة، مُشبعة بالإلمام، ومُرتكزة على المعلومة الصحيحة، وبتوصيف أدق المعلومة القريبة من الحقيقة. 
وفق هذه المعايير المُقتضبة، وبتوصيف أدق، معايير المضمون التي يتجاهلها كثيرٌ من الباحثين، لم يكن عبدالحميد البكري بَاحثًا جادًا. وبعد عرض دراسته لمعايير نقد الدراسات العلمية، وجدت أنَّه التزم شكلًا لا مضمونًا بتلك المعايير. صحيح أنَّه أتى بموضوعٍ جديدٍ وغيرِ مُكرر، وأنَّ عنوان دراسته وملخصها ومقدمتها وخاتمتها اتفق مع محتواها، وأنَّه تقيد بحدودها الزمانية والمكانية. وصحيح - أيضًا - أنَّه بذل جهدًا كبير في الحصول على مَصادرها، إلا أنَّ ثَمَّةَ قصورًا واضحًا في مضمونها، ولو كان المُشرف عليها باحثًا مُتخصصًا في التاريخ اليمني، ما أجازها.
على الرغم من أهمية الموضوع الذي تناوله، إلا أنَّه - أي الباحث البكري - أسهب في نقل التفاصيل، والهوامش. وعلى الرغم من تنوع مصادره، ومراجعه، ما بين الكتب، والبحوث، والرسائل، والشهادات الحية، إلا أنَّه بالغ في استعراضها، كمًا لا كيفًا، وكانت استنباطاته - تبعًا لذلك، وفي الأغلب - مُجتزأة، ومُكررة، وغير مفهومة. ولم يُشر - وهو الأهم - إلى الحلقات المفقودة لذلك الصراع (موضوع دراسته)، ولم يشجع غيره من المُهتمين على البحث والتقصي؛ وإكمالُ ما بدأه؛ الأمر الذي أخلَّ بمضمون الدراسة، وقلل من أهميتها، وشجع كما - سبق أنْ ذكرنا - على سرقتها.
قَدَّم الباحث البكري في دراسته معلومات مهمة، إلا أنَّ تلك المعلومات تشتت بين السطور، ولن يجيد اكتشافها إلا قارئ فاحص، مُلم بتاريخ اليمن المعاصر. وتَفرَّد بنقل التطورات العسكرية خلال الأشهر الأولى التي تلت قيام ثورة 26 سبتمبر 1962م، إلا أنَّ نفسه الاستقصائي قَلَّ أثناء نقله للأحداث التالية، على الرغم من ذِكر بعضها في المصادر التي اعتمدها أصلًا؛ وهذا يدل على أنَّه كان مستعجلًا، وأنَّ همه تركز على الحصول على درجة الدكتوراه، لا على نجاح ومهنية الأطروحة.
وعلى ذكر المصادر التاريخية، وجب التذكير أنَّه خلال السنوات التي تلت صدور تلك الدراسة، صدرت - ومن جميع الأطراف - العديد من الكتب، والأبحاث، والمُذكرات الشخصية، وهي بمجملها وضحت تفاصيل ذلك الصراع، وردمت كثيرٌ من الفجوات، وكشفت كثيرٌ من الحلقات، ولو كان الباحث البكري جادًا، لاستفاد من ذلك، وصحح، وأضاف، ووسع في مضمون دراسته الأم، وقدمها للقراء بلغة سهلة، خالية من الرتابة والجمود. 
الباحث البكري، يَعمل حَاليًا أستاذًا في كلية التربية جامعة صنعاء، هكذا عَرَّف برنامج (أرقام اليمن) في الشبكة العنكبوتية به، وعبر ذات البرنامج - وبمساعدة أحد الزملاء - حصلت على رقمه، واتصلت به، وحين بدأت أناقشه - بعد أنْ عَرَّفته بنفسي - بموضوع دراسته، تَعذَّرَ أنّه مشغول، وطلب مني التواصل معه في اليوم التالي، وحين مرَّ اليوم والأيام التالية دون رد، أرسلت له رسالتين نصيتين أبلغته من خلالهما بحادثة السرقة، ورجوته التعليق، إلا أنَّه تركني في حيرةِ الانتظار. 
معلومتان مغلوطتان
قَدَّمَ الباحث البكري في مقدمة دراسته خُلاصة تاريخ حكم بيت حميد الدين، وتطور أشكال المعارضة اليمنية لذلك الحكم، منذ العام 1918م وحتى قيام الثورة السبتمبرية، وكان موفقًا - إلى حدٍ ما - في تقديم تلك الخلاصة، التي أخذت 40 صفحة من إجمالي عدد صفحات الدراسة البالغ 381 صفحة، إلا أنَّه تورَّط في نقل معلومتين مغلوطتين.
أثناء نقله لدور أبناء منطقة المقاطرة بالتمرد على حكم الإمام يحيى 1919م (ص 13)، أورد معلومة غير صحيحة، نقلًا من كتاب (اليمن الجمهوري) للشاعر عبدالله البردوني، مضمونها: «وسبب تمرد هذه الناحية.. هو قيام أحد مشايخ الصوفية في المنطقة، وهو الشيخ حميد الدين الخزفار في عام 1919م بإظهار معارضته..». والصحيح أنَّ الفقيه الخزفار عاد إلى المقاطره عام 1926م، وكانت مُعارضته سلمية. 
ونفس الأمر تكرر أثناء نقله لدور قبيلة حاشد في مُعارضة حكم الإمام أحمد 1959م (ص 33)، اختلط عليه الحابل بالنابل، وقَدَّمَ وأخر، وأخر وقدم، وأتى بمعلومة مَصدرها مَرجع أجنبي، مضمونها أنَّ الشيخ حميد بن حسين الأحمر تحدى الإمام أحمد، وأرسل له بعيارات نارية في الأكياس التي بعثها لاستعادة أموال ولده محمد البدر، وهي مَعلومة مغلوطة لم يذكرها أحدٌ من المُؤرخين اليمنيين، ولا حتى الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر في مُذكراته. 
سوء فهم
أفرد الباحث البكري الفصل الأول والثاني من دراسته للتطورات العسكرية، واكتفى بالسرد المنقوص، والمُلغم - أحيانًا - بسوء الفهم، وغيب الجانب التحليلي، بعكس تناوله للتطورات السياسية في الفصل الثالث من ذات الدراسة. والاكتفاء بالجانب السردي في الدراسات التاريخية، يجعل المادة جامدة، ويُبقي معلوماتها المُتضاربة على مستوى واحد من المصداقية.
أثناء حديثه عن مُواجهات محور حريب (ص 84)، قال الباحث البكري إنَّ وزير الإعلام علي الأحمدي (قائد القوات الجمهورية) استشهد في 5 ديسمبر 1962م، نقلًا من كتاب (عبدالناصر والفريق العمري)، للباحث محمد الشعيبي. ولو كان اطلع على ما ذكره الأستاذ عبدالملك الطيب في كتاب (نكسة الثورة)، وعلى ما ذكره الدكتور عبدالرحمن البيضاني في كتابه (أزمة الأمة)، لاتضحت له الصورة أكثر، وهما - أي الكتابان الأخيران - مذكوران في قائمة مَصادره!
وقد قدمت خلاصة فهمي لتلك الحادثة قائلًا: كانت حريب من أوائل المناطق الجمهورية سُقوطًا، حيث قامت قوات إمامية تحت قيادة القاضي أحمد السياغي بالسيطرة عليها، وكانت تلك القوات مدعومة من قبل أمير بيحان حسين الهبيلي، المدعوم أصلًا من قبل الإنجليز، وما أنْ قامت طائرات الأخيرين بقصف مدينة البيضاء 15 أكتوبر 1962م؛ حتى توجه الرئيس عبدالله السلال إلى رداع، وأشرف بنفسه على إرسال حملة عسكرية وشعبية قوامها 15,000 مُقاتل، تحت قيادة وزير الإعلام علي محمد الأحمدي. وقبل أنْ ينتهي ذلك الشهر، وبِمُجرد وصول تلك الحملة إلى عقبة أبلح، تعرضت لكمين إمامي غَادر، واستشهد قائدها. 
وأثناء حديث الباحث البكري عن مُواجهات محور مأرب (ص 89 - 90)، قال إنَّ الرائد عبدالمنعم سند قائد كتيبة الصاعقة المصرية المُكلفة باستعادة صرواح تقدم إلى جبل الوتدة، ومعه الشيخ يحيى الرويشان، والشيخ عبدالخالق الطلوع، ومجاميع من أبناء قبيلتهما، وأنَّهم تعرضوا في قمة ذات الجبل لكمين إمامي غادر، وقتلوا جميعًا، باستثناء الشيخ الرويشان.
وبعد عودتي للمراجع التي اعتمدها أصلًا، كانت هذه خُلاصة فهمي لتلك الحادثة: لاحقت القوات المُشتركة (يمنية - مصرية) جيوب المُقاومة الإمامية في خولان، واستعادت السيطرة على مَنطقة رأس العرقوب، وبني صُلَيْح، ثم واصلت تقدمها إلى رأس الوتدة، والأخيرة عِبارة عن أربعة جبال حصينة. وقد سيطرت على ثلاثة منها بسهولة، في حين استعصى عليها الجبل الرابع المُطل على صرواح.
انظم إلى تلك الحملة عددٌ من أبناء قبيلتي بني بهلول، وبني ظبيان، وعلى رأسهم الشيخ يحيى بن ناجي الرويشان، والشيخ عبدالخالق الطلوع، وقد ارتبط الاثنان بعلاقة صداقة مع القائد المصري الرائد عبدالمنعم سند، الذي كان في مُقدمة تلك الحملة، مَسنودًا بفصيلتي صاعقة مصرية، وسهلا له مهمة الوصول إلى قمة جبل الوتدة الرابع 28 نوفمبر 1962م، ثم ابتعدا وقبيلتيهما عن مَسرح العمليات. 
تَعرض الرائد عبدالمنعم سند ومجموعته التي كانت تضم ستة يمنيين للحصار في قمة جبل الوتدة، وذلك بعد أنْ ابتعد حوالي ثمانية كيلو مترات عن مقر قيادة الحملة في بني صُلَيْح، ووثق برجال القبائل المحيطة؛ الأمر الذي جعل الدكتور عبدالرحمن البيضاني يتحرك بطائرة هليوكبتر إلى تلك المنطقة، وأمر - فور وصوله - القوات المُشتركة بالتقدم. وأكمل الدكتور البيضاني ذلك المشهد بقوله: «واصلنا زحفنا إلى قمة الجبل، وإذا بأحد رسلنا الذي صعد إلى قمته يخبرنا بأنَّه وصل إلى خيمة الرائد عبدالمنعم سند وأصحابه الستة، فوجدهم جميعًا مقتولين، وقد فصلت رؤوسهم عن أجسادهم، وألقيت خارج تلك الخيمة».
سارع الدكتور عبدالرحمن البيضاني إلى اتهام الشيخ يحيى الرويشان بالخيانة؛ وذلك حين لم يجد جثته مع جثث ضحايا قمة جبل الوتدة الرابع، وبتوصيف أدق هضبة الوتدة، خاصة وأنَّه كان دليل الرائد سند إلى ذلك الموقع، وقد أمر - أي البيضاني - باعتقال ابن ذلك الشيخ ليضمن ظهوره، وما أنْ ظهر صباح اليوم التالي، حتى اقتاده معه إلى صنعاء 1 ديسمبر 1962م. 
في شهادته على تلك الانتكاسة، أكد الضابط المصري الملازم فريد حجاج - إلى حدٍ ما - كلام الدكتور البيضاني، حيث قال: «أثناء تقدم الشهيد سند ومعه أفراد قبيلة بني ظبيان، قاموا بالغدر بأنْ أطلقوا عليه النيران من الخلف، فسقط قتيلًا، ثم جز رقبته». وأضاف: أنَّه لم ينجو من فصيلتي الصاعقة التي تقدمت مع الرائد سند لحمايته، سوى جندي واحد اسمه فؤاد، وقع - هو الآخر - في الأسر، وعلقت إذاعة الإماميين صباح اليوم التالي على أخبار تلك الحادثة بالقول: «مات سندك يا عبد الناصر!».
في الفصل الثالث من الدراسة، والتي خصصها الباحث البكري للصراع السياسي، قال إنَّ  الأمير إسماعيل بن الإمام يحيى انضم للثورة (ص 180)، نقلًا عن دراسة (ثورة اليمن 1962)، للباحث عبدالله فارع العزعزي، وهي - قطعًا - معلومة غير صحيحة.
وقد قَدمت خُلاصة فهمي لتلك الحادثة قائلًا: تولت مجموعة من الثوار بقيادة النقيب حسين محمد الدفعي مُلاحقة أفراد الأسرة الحاكمة، والعناصر المُوالية لهم، وإلى جانب قيامها بالقبض على أميري الجيش الدفاعي والمظفر في جبل نقم، تمكنت من القبض على الأمير علي بن يحيى، وولده الحسن، وأخيه إسماعيل، وابن أخيه علي بن إبراهيم، وقد تعامل الثوار مع الأخير بلطف تقديرًا لجهود والده، في حين قاموا بإعدام الثلاثة الأوائل، وعددٍ من بني عمومتهم، وأعوانهم، على دُفعات، وبدون مُحاكمة.
وإلى جانب الإمام محمد البدر، تمكن الأمير عبدالله بن الحسن ومعه الأمير محمد بن الحسن وغيرهم من الهرب، بعد أنْ قادا صباح اليوم الأول للثورة مُقاومة مُحدودة في قصر الشكر، وقد كان لثلاثتهم، وعددٍ من أمراء بيت حميد الدين المُتواجدين في الخارج، دورٌ رئيسيٌّ في قيادة مَعارك إنهاك الجمهورية الوليدة، في حين أعلن قريبهم الأمير الحسين بن القاسم - من خارج اليمن - تأييده للثورة، والأخير كان من أغبى ما خلق الله، تمامًا كوالده.
وفي ذات الصفحة، قال الباحث البكري إنَّ الشيخ ناجي بن علي الغادر انضم إلى الثورة، واكتفى بذلك، ولم يوضح أنَّ ذلك الشيخ كان من أشد أعداء الجمهورية، وأن انضمامه لم يكن إلا مُناورةً لكسب مزيدٍ من الأموال والأسلحة. والأكثر مَرارةً أنَّه - أي الباحث البكري - ذكر اسم ذلك الشيخ خطأً (علي بن ناجي الغادر)، وأنَّ ذلك الخطأ تكرَّر في صفحات الدراسة.
أخطأ الباحث البكري - أيضًا - في تحديد تاريخ وصول الإمام المخلوع محمد البدر إلى السعودية، وقال إنَّه - أي البدر - اتخذ من منطقة الخوبة السعودية مقرًا له منذ 24 أكتوبر 1962م (ص 98)، وقال في موضع آخر إنَّ البدر وصل إلى نجران في 8 أكتوبر 1962م (ص 182)، فأيُّ القولين نُصدّق؟!
في الفصل الرابع والأخير من الدراسة، وضح الباحث البكري أبعاد ذلك الصراع عربيًا، ودوليًا، وكيف رفعت الحرب الباردة من وتيرته، وكيف تحولت اليمن لساحة حرب بالوكالة. وهذا الموضوع سبق تناوله، وكان حريُّ بالبكري أنْ يشيرَ إلى ذلك.
عودة إلى المَنبع 
الباحثُ عبدالحميد البكريُّ واحدٌ من كُل، وثمَّةَ باحثون كُثُرٌ يشبهونه، وفي العلوم الإنسانية تحديدًا، تركَّز جهدُهم في الحصول على درجتي الماجستير والدكتوراه، واهتموا بشكلِ رسالاتِهم وأطروحاتِهم، وأهملوا المضمون، على اعتبار أنَّ مناهجَ البحثِ مادةٌ جامدةٌ بلا روح، مثلها مثل القوانينِ والدساتيرِ المُنظِّمةِ، وأنَّه من السهلِ الاحتيالُ والقفزُ عليها، وخداعُ لجنةِ المُناقشة، خاصَّةً إذا كانت غيرَ متخصِّصةٍ. وفي المُحصِّلةِ التراجيديَّة، تبقى مهنيَّةُ الباحثِ وأمانتُه هي الأساسَ، وما دون ذلك مجرَّدُ تفاصيل، وعلى ذلك وجب القياس.
وفي خضمِّ هذا الثراءِ المعلوماتيِّ والمعرفي الذي نعيشه، ومع تعدُّدِ الدراساتِ المتخصِّصةِ وغيرِ المتخصِّصةِ، وتنوُّعِ وتوفُّرِ المصادرِ، لم يَعُدْ الحصولُ على المعلومةِ صعبًا؛ بل تكمنُ الصعوبةُ في عمليَّةِ الانتقاءِ وإيجادِ المعلومةِ الصحيحةِ، وهي عمليَّةٌ قاسية، تشبهُ البحثَ عن إبرةٍ في كومةِ قش.  
وحلًّا لهذه الإشكاليَّةِ المتجذِّرةِ والمتجدِّدةِ، يجبُ على الباحثين والمُهتمِّين ألَّا يعتمدوا على ما تذكرُهُ الدراساتُ والأبحاثُ المُستجدَّة، وأن يعودوا - في كلِّ شاردةٍ وواردةٍ - إلى أصولِ تلكَ المَراجعِ، سواءٌ كانت مُذكِّراتٍ، وشهاداتٍ حيَّةٍ، ووثائقَ، فيما يخصُّ تاريخَنا المعاصرَ، أو أمَّهاتِ كتبٍ، ومخطوطاتٍ، فيما يخصُّ تاريخَنا الحديثَ والقديمَ، وأن يفهموا الحادثةَ من خلالِ تلكَ المصادرِ، فالسباحةُ عكسَ التيَّارِ تُوصلُ إلى المَنبعِ الأصليِّ للحقيقة.
 


إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
آخر الأخبار