الخميس 8 مايو 2025
رسالة متأخرة إلى علي عبد الله صالح
الساعة 10:35 صباحاً
فتحي أبو النصر فتحي أبو النصر

يا علي عبد الله صالح:

أكتب إليك من وطن تمزقه الخيانات، وتقطعه سكاكين الولاءات العمياء.

أكتب إليك لا من باب العتاب وحده، بل من باب التأريخ، لأن بعض الرسائل تصل متأخرة، لكنها تصل.

طبعا لم تعد بيننا، لكن آثارك تتجول في الأزقة، في الدمار، في الذاكرة المشروخة، وفي النعوش التي لا تزال تتكدس باسم الجمهورية التي مزقتها بيديك.

طبعا يا علي، لم تكن ساذجا، كنت رجلا بارعا في هندسة التوازنات، تقرأ شوارع صنعاء أكثر مما تقرأ الدساتير. لكنك، للأسف، حين شعرت بأنك تملك اليمن، جعلت من الدولة مزرعة ومن الجمهورية مملكة لعائلتك. نصبت الأبناء والأصهار في مفاصل القوة، في الجيش والأمن والمخابرات، حتى صار الوطن رهينة لوراثة دموية.

وكذلك أخطأت حين جعلت من الفساد ثقافة وطنية. بل لم تعد الرشوة استثناء، بقدر ما صارت قاعدة.كما لم تعد المناصب تُمنح بالكفاءة، بل تُقاس بالقرابة والطاعة.

ثم أخطأت حين دللت طبقة "السادة المحترمون"، وألبستهم ثوب القداسة السياسية.

ذلك أنك جعلت العنصرية الهاشمية تمر بسلام، بل برعاية الدولة، وكنت تدري أنها قنبلة مؤجلة ستنفجر يوما في وجه الجميع.

ولا أنسى لقائي بك، حين جمعتنا صدفةٌ سياسيةٌ بعد حروب صعدة، وقلت لك — وأنا المنفي في بلدي، المتهم بإهانتك ثلاث مرات، والملاحق بالغرامات والسجون الموقوفة التنفيذ — إن المتدين السني قد يكون متخلفا، لكن المتدين الهاشمي الشيعي هو متخلف وعنصري أيضا.

وافقتني بشدة. وهنا كانت المفارقة.

ذلك أنك كنت تفهم مكامن الخطر، لكنك كنت تؤجله، تسكته، تهادنه، توظفه.

و

و

و

و:

و حتى كانت الطامة الكبرى: تحالفك مع المليشيات الح..وثية الكهنوتية، وأنت تعرف تماما أنها تغتال الدولة وتبني سلالية فوق أنقاض الجمهورية.

ترى ألم تكن تعلم؟ بلى كنت تعلم.

لكنك استخدمتهم كورقة، كفخٍ أخيرٍ في معركة البقاء. وهم استخدموك كممر، كجسرٍ نحو السيطرة، ثم مزقوك كما يُمزق الغلاف بعد فتح الطرد.

نعم ، خذلوك وقتلوك. بل كانوا أكثر خُبثاً منك. وأنت، وأنت! خذلت جمهورك، ثورتك، وأحرقْت آخر ما تبقى من رصيدك التاريخي.

فيا علي، كانت فيك ملامح الزعيم الشعبي، القريب من المزاج العام، تجيد التحكم بأعصاب اللحظة.

لكنك فشلت في تأسيس الدولة. بنيت نظاما هشا يقتات على الولاءات والصفقات.بل لم تحمي الجمهورية، قدر ما خنتها. ولم تفتح أبواب الحرية، بل راوغت حتى لحظة اغتيالك السياسي الآثم على يد من كنتَ تعتقدهم حلفاء.

والآن انظر ما خلفت:

جمهورية بلا سيادة، ووطن يتنازع على جثته الجميع، ومواطن يتأرجح بين جوعٍ وحربٍ وذلٍ وفقدان هوية.

وها هي المليشيات التي احتضنتها ذات يوم، تتفنن في التنكيل، تسرق، تختطف، تزور، وتزعم حقا إلهيا في حكم البشر.

صدقني، لم تكن بحاجة لكل ذلك. كان بإمكانك أن تخرج من الباب الكبير. لكنك اخترت أن تبقى في اللعبة حتى تحولت إلى أحد ضحاياها.

بمعنى أدق غدرت بك اللحظة، وغدرت أنت بالتاريخ.

لذلك أكتب إليك اليوم، لا طلبا لصفح، ولا من باب الشماتة، بل لأن الصدق يستحق أن يُقال: لقد خذلتنا جميعا.

ومع ذلك، ستبقى جزءا هاما من روايتنا اليمنية، بمرّها، بحلوها ،بدمها، وبخيباتها الكبرى.

لكن دعني أقولها بصراحة: لا أحد سيبكيك كما بكوا الوطن الذي أضعته.

وسلاما على كل يمني حقيقي قاوم المليشيا، بينما كنت أنت، الرئيس السابق، تقرع كأس المؤامرة معها

2

......

ومع ذلك، ورغم كل شيء، يظل علي عبد الله صالح مرآة عميقة لشعبه، بتركيبته النفسية والاجتماعية، بصراعاته الطبقية والهوياتية، كما بتقلباته بين الحداثة والتقليد، وبين الحلم بالدولة والحنين إلى القبيلة. بل لم يكن علي عبد الله صالح مجرد رئيس حكم اليمن 33 عاما، قدر ما كان تجسيدا لصراع اليمنيين مع أنفسهم، مع تاريخهم، مع خياراتهم المستحيلة.!!

بمعنى أدق كان الرجل ابن بيئته: قروي صاعد، ذكي بالفطرة، لا يثق بالنخبة لكنه يوظفها، لا يحب المثقفين لكنه يستأنس ببعضهم، يمقت رجال الدين لكنه يترك لهم الهامش حتى إذا ما تمادوا سحقهم.

باختصار، كان خليطا يمنيا خالصا، يعرف كل زقاق في صنعاء، ويقرأ القبائل كما يقرأ خريطة الطقس.

سماه البعض "تشرشل اليمن"، ساخرين، لكنه مثل تشرشل امتلك دهاء البقاء. وآخرون شبهوه بصدام حسين، وهو بالفعل "صدام صغير" لكن ببدلة أخف دموية، وبابتسامة مدروسة. ويشتركان في مقت إيران.

ومنهم من قال هو بسمارك يمني، يوحد الجنوب بالشمال، لكنه لم يكن رجل مؤسسات قدر ما كان رجل تلفونات وموازنات. وهناك من غالى ووصفه بـ"لينكولن"، وهو أبعد ما يكون عن رمز تحرير، لكنه كان يعرف كيف يُخضع الجميع تحت مظلة حكمه الحكيم، حتى لو بالدخان والمراوغة.

تذكروا في السياسة، كان صالح بارعا في إدارة التناقضات لا في حلها. يُحيي خصمه بالأمس ليحطمه اليوم، ويعطيك وعدا بالديمقراطية صباحا ثم يسجنك ليلا بتهمة "زعزعة الأمن القومي". رجل يعرف أن الدولة في اليمن ليست قوانين بل توازنات، ليست مؤسسات بل دهاليز ومصالح.

لكن وحين سقط، لم يسقط وحده، بل سقطت معه صورة كاملة لوهم الدولة في اليمن، الدولة التي بُنيت على توازن القبائل، وتدجين النخبة، وشراء الزمن بالمال والدهاء.

لذا، لا يمكن فهم اليمن الحديث دون المرور بعلي عبد الله صالح.

صدقوني كان التراجيديا التي كتبها اليمنيون بأيديهم، وكان المرآة التي رأوا فيها أنفسهم، بكل العيوب، بكل الأحلام المؤجلة، وبكل الخيبات المتكررة.

**

اكتب إليك بإخلاص وتقدير تام طبعا

كما بتحسر جراء التداعيات التي حدثت مابعد ٢٠١١ ضد حكمك

أنا الذي ثرت عليك

..

فتحي أبو النصر

كاتب وشاعر يمني

من جيل لم يعد يصدق أحدا، لكنه لا يزال يحلم بدولة مدنية.

من جيل كال لك اللعنات بكل احترام

لكنه من جيل مازال يدمع ويدمع كلما حدق في بسمة عينيك

الرائعتين

و

صدقني يا فخامة الرئيس الملعون علي عبدالله صالح كم أشتاقك وافتقدك

نقلا عن صفحة الكاتب على الفيسبوك


آخر الأخبار