آخر الأخبار


الاربعاء 28 مايو 2025
المؤتمر الشعبي العام: حزب السلطة المنهكة بين التحولات والتحالفات
طبعا يُعد حزب المؤتمر الشعبي العام أحد أبرز الأحزاب السياسية في اليمن، تأسس عام 1982 بقيادة الرئيس الراحل علي عبدالله صالح، وقد شكل لعقود الواجهة الرسمية للسلطة الحاكمة.
غير أن رياح التغيير التي عصفت باليمن منذ 2011، مرورا بثورة فبراير، ثم الحرب التي اندلعت في 2015، غيرت المشهد السياسي جذريا، لتتبدل مكانة المؤتمر من "الحزب القائد للدولة" إلى "أحد أطراف المعادلة"، بل وأحيانا مجرد مكون متنازع عليه بين مراكز قوى متعددة.
بمعنى أدق لم يكن المؤتمر مجرد حزب قدر ما كان آلة حكم ومؤسسة سلطوية بامتياز، تماهى وجوده مع الدولة نفسها، وسيطر على مفاصلها العسكرية والإدارية والاقتصادية. لكن لحظة الانهيار جاءت متسارعة عقب انتفاضة 2011 التي قادت إلى تنحي صالح عن الحكم، ثم إلى اصطفاف الحزب خلفه مرة أخرى حين عاد إلى المشهد عبر تحالف مع جماعة الحوثي، في خطوة مثلت قطيعة مع جزء كبير من قواعده وقياداته، خاصة في الجنوب وبعض مناطق الشمال التي رأت في الحوثيين قوة انقلابية كهنوتية.
والشاهد أن التحالف مع الحوثيين، وإن بدا تكتيكياً في حينه، إلا أنه قاد إلى نهاية مأساوية للرئيس المؤسس في ديسمبر 2017 بعد اشتباك دموي في صنعاء، ما عمق الانقسام داخل الحزب وأفقده بوصلته التنظيمية والسياسية.
تذكروا خلال السنوات الأخيرة، وجد المؤتمر الشعبي العام نفسه موزعا بين عدة محاور متناقضة. فبينما انخرطت قيادات مؤتمرية في تحالفات مع حزب الإصلاح – خصمه التاريخي – في إطار الحكومة الشرعية المعترف بها دوليا، ذهب جناح آخر للتقارب مع الحوثيين، إما نتيجة الوجود الجغرافي في مناطق سيطرتهم أو تحت ضغط الضرورة السياسية. كما برز جناح ثالث يتماهى مع المجلس الانتقالي الجنوبي، مستفيدا من مساحة المناورة التي تتيحها حالة التفكك الوطني.
على إن هذا التوزع في الولاءات ليس فقط سياسيا بل يعكس خللا بنيويا عميقا في الحزب نفسه، الذي لم ينجح في إنتاج قيادة موحدة أو رؤية سياسية جديدة لما بعد صالح. وتحوّل الانقسام الداخلي إلى سمة ملازمة، تُضعف قدرته على استعادة جمهوره أو التمركز كقوة فاعلة.
رغم ذلك، لا يزال للمؤتمر رصيد جماهيري لا يُستهان به، خصوصاً في مناطق الشمال التي شهدت مرحلة "الدولة المستقرة" في ظل حكمه، فيما تغلب مشاعر الحنين إلى الأمن والاستقرار على الاعتبارات السياسية الراهنة.
في الجنوب، تبدو الصورة أكثر تعقيدا، فالمؤتمر هناك فقد الكثير من حضوره نتيجة الذاكرة المرتبطة بالحرب والانقسام، فضلا عن صعود قوى جنوبية تحمل مشروعا انفصاليا واضحا يضع المؤتمر ضمن معسكر "الوحدة القسرية".
لكن ما يجب التوقف عنده هو أن كثيرا من اليمنيين لا يزالون ينظرون إلى المؤتمر، ليس فقط كتنظيم سياسي، بل كرمز لفترة "نصف دولة"، مقارنة بفوضى الميليشيات والانقسامات الراهنة، وهو ما قد يشكل قاعدة لإعادة البناء إن وُجدت إرادة صادقة لذلك.
والحق يقال إن تحالفات المؤتمر لم تكن محسوبة بدقة، بل جاءت غالبا كرد فعل على تراجع نفوذه، ما جعله فريسة سهلة للقوى الأكبر. فالتقارب مع الحوثي مثل ضربة معنوية وأخلاقية لجمهوره، فيما الشراكة مع الإصلاح تبدو مترددة وغير متكافئة، خاصة في ظل تراكمات الماضي. هذه "التحالفات المتعارضة" أضعفت صورته كحزب لديه رؤية واضحة، وجعلته في أعين الكثيرين أشبه بمن يبحث عن ملاذ أكثر من كونه لاعبا فاعلا.
من هنا فإن المؤتمر الشعبي العام اليوم على مفترق طرق حاسم. إما أن ينجح في إعادة تعريف نفسه كقوة سياسية ذات مشروع وطني جامع، تتجاوز إرث صالح ولا تبني على تجربته، أو أن يذوب في صراعات المكونات الأخرى، ليصبح مجرد رقم رمزي في معادلة أكبر منه.
ذلك أن الانقسام الداخلي يمثل الخطر الأكبر، وهو ما يتطلب قيادة جريئة، تحظى بقبول شعبي واسع، وتستطيع التوفيق بين تنوع الجغرافيا السياسية والمزاج الشعبي المتقلب.
وفي اليمن الذي تتآكله الصراعات والهويات الفرعية، يبقى للأحزاب ذات الطابع الوطني الجمهوري الجامع دور لا يمكن الاستغناء عنه. فهل يكون المؤتمر واحدا منها من جديد؟ أم أن صفحة السلطة التي طواها الزمن ستبقى آخر فصوله؟
-2-
حزب الإصلاح في اليمن؟ بين النشأة والتحديات والطموح
طبعا يُعد حزب التجمع اليمني للإصلاح أحد أبرز الكيانات السياسية التي تشكلت عقب قيام الوحدة اليمنية عام 1990. نشأ الحزب كتعبير عن تيار إسلامي سياسي يسعى للانخراط في العمل الديمقراطي، وهو يمثل الجناح السياسي لحركة الإخوان المسلمين في اليمن، رغم خصوصيته اليمنية التي تجمع بين الطابع الإسلامي، والبعد القبلي، والتوجه السياسي البراغماتي. لكن، ما الذي يمثله الحزب اليوم؟ وكيف تأثر بالتطورات المعقدة التي عرفتها البلاد منذ اندلاع الحرب؟ وهل لا يزال يمتلك ما يلزم ليكون كيانا فاعلا من مستقبل اليمن.
تأسس حزب الإصلاح في 13 سبتمبر 1990 في مرحلة كانت اليمن تشهد تحولا سياسيا بارزا بعد إعادة توحيد الشمال والجنوب. مثل الحزب في بداياته مظلة واسعة جمعت التيار الإسلامي، وتحديدا الإخوان المسلمين، إلى جانب زعامات قبلية بارزة مثل الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر. ومنذ لحظاته الأولى، اتسم الإصلاح بطابع مزدوج: ديني سياسي من جهة، وقبلي براغماتي من جهة أخرى، وهي معادلة منحته قوة في مرحلة، لكنها باتت عبئا مع تغير الظروف.
تذكروا أن الحزب لعب دورا مهما في الحياة السياسية اليمنية، إذ شارك في انتخابات 1993 وتحالف حينها مع حزب المؤتمر الشعبي العام، إلا أن تلك العلاقة سرعان ما شهدت توترا، خصوصا مع اشتداد التنافس على السلطة.
و لاحقا، خاض الحزب تجربة المعارضة من خلال تكتل "اللقاء المشترك"، كما شارك في الانتفاضة الشعبية عام 2011، مما جعله في طليعة قوى التغيير.
غير أن المشهد السياسي اليمني تغير جذريا منذ عام 2014، مع اجتياح الحوثيين للعاصمة صنعاء واندلاع الحرب الأهلية.
حينها وجد الإصلاح نفسه في موقع دفاعي، وتعرض لضربات عسكرية وسياسية أثرت على نفوذه. فيما تفككت قواعده في عدد من المناطق، وتعرض أعضاؤه ومقراته للاستهداف، مما أفقده الكثير من قدرته على الحشد والتنظيم.
وبالإضافة إلى التحديات الميدانية، واجه الحزب موقفا إقليميا معقدا، خصوصا من دولة الإمارات العربية المتحدة التي أبدت رفضا لأي دور للإخوان المسلمين في المنطقة، وهو ما انعكس على سياسات التحالف العربي الذي يفترض أن الإصلاح أحد حلفائه. وقد أدى ذلك إلى عزلة إقليمية نسبيا، وانكماش في الدعم السياسي والإعلامي الذي كان يعول عليه.
في الداخل، عانى الحزب من انقسامات غير معلنة بين جناحه الدعوي والسياسي، وبين تيارات شبابية تطالب بالتغيير وقيادات تقليدية متمسكة بالهياكل القديمة. كما أثارت بعض الممارسات الإدارية والاتهامات المتعلقة بالفساد المالي والإداري تساؤلات داخلية وخارجية حول مدى التزام الحزب بمبادئ الشفافية والمساءلة، خاصة أنه يُفترض أن يمثل نموذجا إسلاميا نظيفا.
هذه الأزمات المركبة انعكست بشكل واضح على ضعف الأداء المؤسسي داخل الحزب، مثل تأجيل انعقاد المؤتمر العام الخامس، مما أدى إلى جمود في الهياكل القيادية وغياب التجديد السياسي، وأفقد الحزب القدرة على قراءة التحولات السياسية والتفاعل معها بمرونة.
لكن رغم ما سبق، لا يزال حزب الإصلاح يمتلك قاعدة جماهيرية لا يُستهان بها، خصوصا في مناطق الشمال والوسط اليمني، ويضم كوادر مؤهلة وخبرة سياسية متراكمة.
على إن التحدي الحقيقي أمامه الآن لا يتعلق فقط بالنجاة من الحرب والضغوط الإقليمية، بل بإعادة تعريف ذاته كقوة سياسية وطنية، لا مجرد امتداد لحركة إسلامية عابرة للحدود أو تحالف قبلي محافظ.
ولتحقيق ذلك، ينبغي على الحزب أن يعيد تنظيم صفوفه من الداخل، من خلال انتخاب قيادة جديدة تتمتع بالكفاءة والشرعية، وتجديد رؤيته السياسية لتكون أكثر واقعية واستيعابا للتحولات الاجتماعية والثقافية، خاصة بين فئة الشباب.
لكن لكي يستعيد الحزب عافيته ومكانته، عليه أن يتبنى خطابا سياسيا وطنيا جامعا، يبتعد فيه عن الصيغة التقليدية التي تخلط بين الدعوة والسياسة، ويركز على بناء دولة مدنية عادلة تقوم على التعددية والشفافية. كذلك، يجب أن يفتح الحزب قنوات جديدة للتواصل مع المواطنين، خصوصا في المناطق التي فقد فيها التأثير، ويستثمر في الإعلام الرقمي والشباب، باعتبارهم الفاعل الأساسي في المرحلة القادمة.
كما أن عليه التعامل بجدية مع ملفات الفساد، والمكاشفة مع قواعده، والقيام بمراجعة نقدية شجاعة لتجربته السابقة، دون مكابرة أو إنكار للحقائق.
في الحقيقة يُعد حزب الإصلاح، بما له وما عليه، أحد الأركان الرئيسة التي ساهمت في تشكيل الحياة السياسية اليمنية منذ الوحدة. ورغم التراجع الذي يعانيه اليوم، فإن الفرصة لا تزال قائمة ليكون شريكا أساسيا في إعادة بناء اليمن، إذا ما اختار طريق الإصلاح الحقيقي، الداخلي قبل الخارجي، وابتعد عن الحسابات الضيقة، واعتمد على قاعدة الشفافية والالتزام الوطني. فالتاريخ لا يمنح الفرص للأقوياء فقط، بل لمن يمتلكون الشجاعة في مراجعة أنفسهم.
-3.-
الحزب الاشتراكي اليمني: أربعة عقود من التحولات بين الجنوب والشمال
منذ تأسيسه عام 1978 على أنقاض اندماج فصائل ماركسية ويسارية في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية (الجنوب سابقا)، شكل الحزب الاشتراكي اليمني واحدا من أبرز الأحزاب السياسية في تاريخ اليمن الحديث، ليس فقط من حيث سيطرته على دولة الجنوب لاكثر من عقد ونصف، بل أيضا بسبب تأثيره على مسارات الوحدة اليمنية، والحروب، والتحولات الديمقراطية، وصولا إلى التصدع والتهميش في راهن ما بعد الحرب.
فلقد قاد الحزب الاشتراكي اليمني دولة الجنوب في حقبة شديدة الأيديولوجية، متبنياً النهج الماركسي اللينيني، وبنى دولة ذات مؤسسات صلبة نسبيا مقارنة بواقع المنطقة. لكن شهدت هذه المرحلة صراعات داخلية دموية، أبرزها أحداث 13 يناير 1986 التي مزقت البنية القيادية للحزب، لكنها مهدت لاحقا لنهج أكثر براغماتية بقيادة علي سالم البيض، الذي دفع نحو الوحدة مع الشمال عام 1990.
وإذ شارك الحزب الاشتراكي في تأسيس الجمهورية اليمنية في مايو 1990، ودخل في تحالف هش مع حزب المؤتمر الشعبي العام في صيغة "التقاسم الثنائي"، لكن سرعان ما انفجرت التناقضات. خسر الحزب الكثير من قواعده السياسية في الشمال، وواجه حملة اغتيالات طالت المئات من كوادره.
على إن هذا التآكل السياسي والأمني قاد إلى حرب 1994، والتي انتهت بهزيمته العسكرية وخروجه القسري من السلطة.
طبعا خرج الحزب الاشتراكي من حرب 1994 مثقلا بخسائر سياسية وشعبية، وتعرض لحملات إقصاء ممنهجة من نظام صالح. لكنه صمد كأحد الأصوات المعارضة، خاصة في إطار تكتل اللقاء المشترك الذي تأسس مطلع الألفية، وضم قوى إسلامية وقومية ويسارية.
و رغم هشاشة تواجده الجغرافي بعد انهيار قواعده في الجنوب، استطاع الحزب الحفاظ على وجود رمزي في العملية السياسية.
غير أن الحزب الاشتراكي لعب دورا فاعلا في ثورة الشباب عام 2011، فيما شكل مع غيره من القوى المدنية إحدى الركائز السياسية للانتقال السياسي الذي جاء بموجب المبادرة الخليجية. وقد شارك الحزب بفاعلية في مؤتمر الحوار الوطني، وقدم رؤى تقدمية حول الدولة المدنية والعدالة الانتقالية، لكن المشهد السياسي سرعان ما انقلب رأسا على عقب مع اجتياح الحوثيين لصنعاء في 2014.
ومع اندلاع الحرب الشاملة، وجد الحزب الاشتراكي نفسه مشلولا بين جبهتين: الشمال الذي يسيطر عليه الحوثيون، إذ تم تقويض نشاطه، والجنوب الذي تحكمه قوى الحراك والمجلس الانتقالي، والتي تنظر للحزب بعين الريبة، رغم أن جذوره جنوبية.
بمعنى أدق انقسم الحزب فعليا إلى مكونات متعددة الولاءات والمواقع. البعض في صنعاء فضل البقاء تحت هيمنة الحوثي، فيما توزع آخرون بين الشرعية والتحالف، أو التحقوا بقوى جنوبية أخرى. غير أن هذا التمزق أفقد الحزب تماسكه وفاعليته كقوة موحدة.
اليوم، لا يُمكن وصف الحزب الاشتراكي اليمني بأنه قوة سياسية موحدة أو فاعلة وطنيا بالمعنى التقليدي.
ذلك أن قيادته المركزية تفتقر للرؤية الواضحة، وتعيش حالة شلل بين مراكز صنعاء وعدن والقاهرة، مع عجز عن حسم الخيارات التاريخية. بل إن كثيرا من قواعده أصبحت أقرب إلى الحالة المزاجية للمواطن اليمني الباحث عن النجاة لا عن الإيديولوجيا.
في الجنوب تحديدا، يُنظر إليه كتركة دولة سابقة فقدت بريقها، بينما في الشمال، تلاشى أثره تحت وطأة السيطرة الأمنية. وعلى الرغم من ذلك، ما يزال لدى الحزب كوادر مؤهلة ورصيد نضالي وتاريخي يمكن البناء عليه، إن توفرت إرادة إعادة التأسيس.
ومن حيث الإمكانات النظرية، لا يزال الحزب الاشتراكي قادرا على لعب دور فاعل، لكن بشرط أن يعيد قراءة المشهد بعيون جديدة، بعيدا عن الحنين، وأن ينجح في جمع شتاته، وبناء تحالفات جديدة قائمة على مصلحة اليمنيين لا على ميراث صراعات الماضي.
في الحقيقة كانت أزمة الحزب الاشتراكي اليمني خلال العقود الماضية ليست فقط بسبب الظروف المحيطة، بل أيضا بسبب قادة لم يواكبوا التحولات، وانشغلوا بإدارة التوازنات الداخلية على حساب الرؤية العامة. واليوم، يبقى أمام هذا الحزب خياران: إما أن يندثر كمجرد ذكرى لحزب عظيم، أو ينهض كحركة مدنية تقدمية تُعيد وصل ما انقطع بين شمال وجنوب، وتخاطب واقع اليمنيين بلغة اليوم لا شعارات الأمس.
لنخلص إلى أن الحزب الاشتراكي اليمني يقف عند مفترق طرق خطير، لكنه ليس بلا فرص.
وبما أن تاريخه الثقيل قد يكون عبئا، لكنه أيضا خزان من الدروس والعبر.
وفي يمن تتآكله الهويات والميليشيات، فإن عودة صوت مدني عقلاني مثل صوت الاشتراكي قد تكون ضرورة وطنية، لا مجرد خيار حزبي.!
-4-
التنظيم الوحدوي الشعبي الناصري في اليمن: ما له وما عليه
في ركن خاص من الذاكرة السياسية اليمنية، يحتل "التنظيم الوحدوي الشعبي الناصري" مكانة نضالية نبيلة، وإن كانت محدودة من حيث النفوذ والتمدد الجماهيري.
هو حزب قليل العدد، لكنه غني بالرمزية، ومدرسته الأخلاقية تستمد جذورها من إرث جمال عبد الناصر لا من المصلحة الآنية.
ومع ذلك، فإن التنظيم لا يزال يراوح في مربع "الأقلية الهائلة"، التي تملك رصيدا أخلاقيا كبيرا لكنه لا يُترجم إلى سلطة فعلية.
تذكروا أن بدايات التنظيم الناصري في اليمن تعود إلى النصف الثاني من ستينيات القرن العشرين، حين بدأ شباب متأثرون بالمد القومي الناصري في مصر، في تأسيس خلايا سياسية في شمال اليمن عقب ثورة 1962.
بمرور الوقت، وتحديدا عام 1965، ظهرت نواة تنظيمية مستقلة باسم "الطلائع الناصرية"، لكنها ظلت سرية، إلى أن أخذت شكلها الحزبي الواضح في منتصف السبعينيات، حين تأسس "التنظيم الوحدوي الشعبي الناصري" رسميا في الشمال عام 1976.
في الجنوب، لم يتمكن التنظيم من الانتشار كحزب واضح المعالم بسبب هيمنة الجبهة القومية ثم الحزب الاشتراكي على المشهد، غير أن عناصر ناصرية شاركت في الكفاح ضد الاستعمار البريطاني، لكنها اصطدمت لاحقا مع الجبهة القومية التي سعت إلى احتكار الثورة والدولة معاً. وكان للتنظيم امتداد جنوبي هامشي، فيما تعرض للقمع والتهميش، ما حد من تطوره.
ولقد شهد التنظيم الوحدوي الشعبي الناصري واحدة من أقسى محطاته عندما فشل في تنفيذ انقلاب عسكري عام 1978 ضد علي عبد الله صالح، على خلفية اغتيال الرئيس إبراهيم الحمدي. وقد قُمع التنظيم بوحشية، وكان من أبرز القائمين على القمع علي محسن الأحمر، الأخ غير الشقيق لصالح المقرب من تيار الإخوان المسلمين.
بعد إعلان الوحدة عام 1990، دخل التنظيم المشهد السياسي العلني ضمن التعددية الحزبية الجديدة، وشارك في الحياة البرلمانية، لكنه لم يحقق نتائج لافتة في الانتخابات.
و رغم ذلك، حافظ على مواقفه المبدئية في مناهضة الفساد، ورفض الاستبداد، والانحياز إلى قضايا الحرية، متخذا خطا ثابتا يعارض الانقلابات والهيمنة الخارجية.
ثم خلال ثورة فبراير 2011، كان التنظيم من أوائل الأحزاب التي انحازت للثورة، وشارك بفعالية في ساحات التغيير. كما كان له دور واضح في مؤتمر الحوار الوطني، إذ قدم رؤية متقدمة للدولة المدنية، غير أن حجمه البرلماني المحدود ظل عائقا أمام نفاذ تأثيره في صناعة القرار.
ولكن على خلاف بعض القوى اليمنية التي تبنت خطابا متوازنا تجاه السعودية، احتفظ التنظيم الناصري بموقف عكسي.
فهو لا يرى في السعودية "العدو"، لكنه يرفض بشدة أي تدخل يمس السيادة الوطنية، ولهذا كان موقفه من التحالف العربي نقديا منذ وقت مبكر، وعبر عن رفضه لانزلاق اليمن نحو حرب طويلة تخدم أجندات غير وطنية.
هذه المواقف أكسبته احترام بعض الأوساط، لكنها أبقته خارج تحالفات النفوذ.
في الحقيقة للتنظيم الناصري ما له من الثبات الأخلاقي، والنقاء السياسي، والإيمان بالمشروع القومي العربي، لكنه بالمقابل يفتقر إلى المرونة التنظيمية والانخراط الشعبي الواسع.
بمعنى أدق لم ينجح حتى اليوم في تحويل خطابه النقي إلى مشروع سياسي قادر على التوسع والتأثير. كما أن تركيبة قيادته ظلت نخبوية، مما جعله حزبا سياسيا نزيها، لكنه غير مؤثر في معادلات القوة.
هناك من طرح احتمالية توحيد التنظيم الناصري مع الحزب الاشتراكي اليمني وهذا ليس بالأمر الجديد، لكنه ظل طروحة نظرية أكثر منه توجها عمليا.
فكلا الحزبين ينتمي إلى الفضاء اليساري، وكلاهما يحمل تجربة نضال ضد الإمبريالية والاستبداد، وكلاهما أيضا يعاني من التهميش والشتات.
فلو تمكنا من بناء تحالف يساري تقدمي حديث، يتجاوز عقد الماضي، وينخرط في هموم اليمنيين الراهنة، فقد يمثلان معا نواة لمشروع وطني جامع في مواجهة الطائفية والجهوية.
لكن مثل هذا التوحد يحتاج إلى شجاعة سياسية، وقيادات تتجاوز الحساسيات التاريخية، خاصة أن بعض عناصر التنظيم الناصري اصطدمت فعلا بالجبهة القومية في الجنوب خلال مرحلة التحرير، وهي رواية ما تزال حاضرة في الذاكرة السياسية، وإن خفتت مع الزمن.
لكن يبقى التنظيم الوحدوي الشعبي الناصري مثالا لحزب يحمل قيماً كبيرة، فيما يعيش في واقع لا يرحم المثاليات. نضاله نبيل، وتاريخه مشرف، ومواقفه متزنة، لكنه يواجه تحدي التمدد والشعبية. ومن دون مشروع سياسي جديد، يتجاوز الأطر الأيديولوجية القديمة نحو تحالف وطني مدني عريض، قد يظل التنظيم أسير حنينه العروبي في زمن انحسار القومية.
ومع ذلك، فإن في بقائه، بهذا النفس الأخلاقي، ما يُبقي للسياسة اليمنية بعض الطهر القومي المفقود.
الحكومة الرقمية.. لماذا لانبادر؟
صواريخ الحوثي التي تدمر عقل الناشئين وتخرب وجدانهم
الرجل الذي يحمل اليمن في حقيبته الدبلوماسية
انتهازية الاحزاب
مزّين المدينة.. مقالة أشادت بمسؤول فأدخلت كاتبها المستشفى!
قراءة موضوعية في الأحزاب السياسية اليمنية الرئيسيه