آخر الأخبار


السبت 10 مايو 2025
مَا أنْ قام الإمام الطاغية يحيى حميد الدين بإرسال إحدى مَجاميعه القبلية لإخضاع مَناطق اليمن الوسطى (تعز، وإب)، حتى حَصل في تلك المناطق الاضطراب ديسمبر 1918م، لتأتي انتفاضة حُبيش تحت قيادة الشيخ الشاب محمد عايض العقاب، وبدعم وتحفيز من بعض مشايخ تلك المناطق، وتُغَير من سياسة ذلك الإمام التوسعية؛ فلم يعد ذلك الطامح المُهادن، الباحث بالرسائل والأعطيات المحدودة عن ولاء مشايخ القبائل، فقد كشر عن أنيابه، وأظهر صورته الحقيقية دون رتوش.
حصار وثلاث حملات
كان الشيخ العقاب أحد مشايخ المناطق الوسطى الذين توجهوا لمُقابلة الإمام يحيى فور دخوله صنعاء 19نوفمبر 1918م، وكان أيضًا من أوائل المشايخ الذين رفضوا الدخول في طاعة ذلك الإمام، ونُقل عنه - كما أفاد الباحث علي محمد عبده - قوله بعد مُغادرته المقام الإمامي: «والله لن يحكمني أناس بِهذه الوحشية».
قام الشيخ العقاب في بِداية العام التالي (1919م) ومعه عددٌ من أبناء منطقته بالهجوم على العساكر الإماميين المُتواجدين في ناحية حُبيش، قتل منهم عشرة، وقيل أكثر، وحاصر الباقين ومعهم قائدهم حاكم الناحية القاضي عبدالله بن محمد يونس في مركز الناحية (ظَلْمَة)، وتحديدًا في دار الحكومة التي بناها الأتراك.
أرسل سيف الإسلام أحمد بن قاسم حميد الدين المُتواجد حينها في مدينة إب بقوات إمامية إلى تلك الجهة، تحت قيادة شقيقه عبدالله، وقد تَعرضت - هي نفسها - للهزيمة، ثم للحصار، وذلك بعد أنْ خاضت مع الثوار مُواجهات شرسة.
تَدخل خِلال مُواجهات هذه الجولة شيخ المخادر أحمد بن صالح الصبري، ومحمد عبدالواحد من مشايخ إب، وقاما بالتوسط بين الجانبين، وتمكنا - كما جاء في إحدى التقارير البريطانية - من إقناع الثوار برفع الحصار عن حاكم حُبيش القاضي عبدالله يونس، وقواته، والسماح لهم بمُغادرة ظَلْمَة؛ شريطة انسحاب القوات الإمامية من أطراف تلك الناحية، وأنْ لا تقوم بأي عمل عِدائي كرد فعل على الحادثة الأولى، وهذه الجزئية تجعلنا نجزم أنَّ هذه العملية تمت قبل هجوم القوات المُنقذة (قوات عبدالله حميد الدين)، وبتوصيف أدق قبل خرق تلك القوات لتلك الاتفاقية.
لم يتحدث أحد من المُؤرخين الإماميين عن تلك الوساطة، ولا عن نتائجها، في حين اكتفى المُؤرخ مطهر أثناء نقله لتفاصيل هذه الجولة بالقول: «وتيسر في أثناء تلك المُدة خروج القاضي عبدالله بن محمد يونس حاكم حُبيش ومن معه من بقية الجند الإمامي إلى إب ليلًا، بعد أنْ حاصرهم الباغون أشد الحصار في ظَلْمَة».
المُؤرخ مُطهر لم يعترف أيضًا بحادثة تَعرض القوات الإمامية المُنقذة للحصار، ولا بخسائرها البشرية والمادية، في حيـن أكد المُؤرخ أحمد الوزير ذلك قائلًا: «لم أعد أتــذكر متى أرسل سيف الإسلام أحمد أخاه من إب، ولكن الثابت أنَّ السيد عبدالله بن قاسم كان قد وقع مَحصورًا فور وصوله إلى حُبيش، وأنَّ الإمام يحيى جَهز حملة تعز لفك الحصار عنه فقط».
وبين الحصار الأول والحصار الأخير ثمة جزئية مهمة أوردها المُؤرخ أحمد الوزير، تُشير اختزالًا إلى قيام الإمام يحيى بإرسال حملة ثالثة إلى حُبيش، أسماها بـ (حملة تعز)، وربما - والاحتمال هنا ضعيف - المقصود حملة عمه علي الوزير الآتي ذكرها، في حين لم يُشر المُؤرخ عبدالكريم مطهر إلى ذلك، واكتفى بالحديث عن استمرار المُواجهات في تلك الناحية، ما يُؤكد قيام أحمد بن قاسم حميد الدين بإرسال تعزيزات عسكرية لإنقاذ أخيه (عبدالله)، وأضاف مُطهر: «والحرب مستمر بين الفريقين، والمُخالفون يتلقون من ذوي التردد المعاونة الخفية».
نقل المُتصرف يوسف بك حسن في مُذكراته جانبًا من تلك المُواجهات، وألمح هو الآخر لوجود حملة ثالثة، وقال في أحداث يوم 23 أبريل 1919م، تعليقًا على رسالة وصلته يومها، ما نصه: «وأنا أظن أنَّ ورود قوة.. إلى إب لأجل سوقها إلى حُبيش، حيث الأهالي هناك قاوموا الشرذمة الإمامية التي ساقها عليهم سيف الإسلام (يقصد أحمد بن قاسم حميد الدين) من إب، وأخذوا منها مدفعًا، ومَهمات أخرى، وفتكوا بها».
إلى ذلك تحدث الجنرال البريطاني بيتي (القائم بأعمال المقيم السياسي بعدن) في تقريره الذي بَعثه لوزير الخارجية الإنجليزي عن دعم أهالي إب والعدين وغيرهم لثوار حُبيش، وذلك في لحظات انتفاضة الأخيرين الأولى، وأضاف - أي الجنرال بيتي - أنَّ الثوار قتلوا ما يزيد عن 60 جنديًا إماميًا، وأسروا سبعين آخرين، بينهم ضابط، وغنموا مَدفعًا، ورشاشين.
وعلى ذكر دعم أهالي إب والعدين لثوار حبيش في لحظات انتفاضتهم الأولى، أفاد الشيخ يحيى منصور بن نصر أنَّ والده أمد الشيخ محمد عايض العقاب بالمؤونة والذخيرة، في حين أشاد حفيد الأخير الشيخ مُراد أمين نعمان محمد عايض العقاب بدور مشايخ بيت الباشا (الجُماعي) في العدين في هذا الجانب، وقال نقلًا عن والده إنَّ أولئك المشايخ أمدوا جده بالذخائر، في حين تنكر معظم مشايخ المناطق الوسطى لالتزاماتهم.
معركة فاصلة
أمام تلك الانتكاسات المُتتالية، وقع الاختيار للذئب الأسود علي بن عبدالله الوزير أنْ يكون أميرًا للجيش، وصدر إليه الأمر المُتوكلي بتأديب المُخالفين من أهل حبيش، وإصلاح جهات اليمن الأسفل، وضمها بالقوة لحضيرة الدولة الإمامية.
خرج الأمير علي الوزير من صنعاء، ومعه 3,000 مُقاتل من الجيش البراني، مُعظمهم من خولان، وهمدان، وبني مطر، وبني حشيش، وبلوكين من الجيش النظامي، ومدفعين رشاشين، وقيل أكثر من ذلك، وما يحتاج إليه من عُدة الحرب.
لم يَكن قَرار اختيار الذئب الأسود لمُقاتلين من خولان اعتباطيًا؛ فمعروف أنَّ عدد من أبناء تلك القبيلة سكنوا خلال العقود السابقة في بعض قُرى حُبيش، ويستحيل تبعًا لذلك أنْ يُواجه هؤلاء بني عمومتهم، وباتحاد القادمين والساكنين حصلت - كما سيأتي - الانتكاسة، وكان المُستفيد الأكبر من ذلك الإماميين المُحتلين، الذين ديدنهم التحريش بين اليمنيين، واللعب على وتر العصبيات المذهبية والمناطقية المقيتة.
وما أن وصل الذئب الأسود إلى يريم، حتى أرسل بأول رُسله إلى حُبيش، ثم واصل تقدمه إلى سمارة، وفي مُرتفعاتها السامقة انتظر وصول باقي القوات، ولم يُغادرها إلا بعد أنْ تَرك فيها فصيلة من الجيش، على أنْ تتركز مهمة تلك الفصيلة بالتصدي للعساكر الفارين، وعدم السماح لأي رجل مُسلح بالمرور إلا بتصريح منه.
كَثَّف الثوار في تلك الأثناء من استعداداتهم للمُواجهة، ورَتبوا في سفح جبل حُبيش مَتارسهم، وما أنْ وصل الأمير علي الوزير إلى ناحية المخادر المجاورة، والواقعة في شمال ذلك الجبل، حتى سَارع بإرسال رسوله الثاني إلى قائدهم الشيخ العقاب، عَارضًا عليه الاستسلام، وإخلاء سبيل القوات الإمامية المُحاصرة، فما كان من الأخير إلا أنْ رد على ذلك الرسول بإعطائه أربع طلقات من الرصاص، وخاطبه بالقول: «هذا هو الجواب، سلمه لمن أرسلك».
تزامنت عودة ذلك الرسول مع وصول الذئب الأسود إلى سفح جبل حبيش، ليتفاجأ بهجوم مُباغت شنه الثوار، أجبروه على إعادة ترتيب قواته 17 مايو 1919م، مُقسمًا إياها على أساس قبلي، حيث جعل - كما أفاد المُؤرخ حمود الدولة - قبائل عيال يزيد في الميمنة، وقبائل أرحب وحاشد في الميسرة، وقبائل خولان ونهم في القلب، وتولى بنفسه قيادة الفرقة الأخيرة.
ومن مَركز ناحية المخادر تَحركت قُوات الميمنة جهة الجنوب الغربي، وتمثلت مهمتها في السيطرة على مناطق جبل حُبيش الشمالية، فيما تحركت قوات الميسرة والقلب جهة الجنوب الشرقي، وتمثلت مهمتهما في السيطرة على جنوب ووسط ذلك الجبل العتيد، ومن قرية الزبيدي التابعة للمخادر، والواقعة في سفح جبل حبيش، قام الأمير علي الوزير بإرسال أحمد بن صالح الصبري إلى الثوار، إلا أنَّ وساطة ذلك الشيخ فشلت، وعاد أدراجه خائبًا، والشيخ المذكور كان من الـمُوالين للإمامة، وسبق أنْ عينه الذئب الأسود فور وصوله المخادر عاملًا لتلك الناحية، وقد شارك - تبعًا لذلك - ومجاميع من قبيلته في هذه الحملة.
قامت القوات الإمامية بعد ذلك بهجوم شامل، ومن ثلاثة محاور، وقد واصلت قوات الميمنة تقدمها إلى عزلة الناحية، والأخيرة تقع بين عُزلتي ظَلْمَة وقحزة حبيش، وتمكنت من الاستيلاء عليها، وعلى جميع حُصونها، وصولًا إلى حصن شافة، وذلك بعد معارك شرسة برزت فيها بطولات الشيخ عبدالعزيز بن عبدالكريم الـحداد، شريك الشيخ العقاب في قيادة تلك الانتفاضة.
قَاتل الشيخ عبدالكريم الـحداد حتى آخر طلقة، وقتل من على شرفة داره العتيق الرابض في القُرب من ذلك الحصن (حصن شافة) حوالي 60 عسكريًا إماميًا، وكانت نهايته قتيلًا تحت أنقاض تلك الدار، بعد أنْ عمد الإماميون على حرقها، وهدمها، وتركها قاعًا صفصفًا.
وفي الجانب الآخر تجاوزت قوات الميسرة قرية الزبيدي وصُولًا إلى قرية الغَراب التابعة لعُزلة جبل معود، من ناحية ريف إب، ومن الأخيرة أكملت مسيرها وسيطرت على مناطق جبل حبيش الجنوبية.
أما المحور الأوسط (القلب)، والذي قاده الأمير علي الوزير بنفسه، فقد اضطلع بالدور الرئيسي في تلك الجولة، وتجاوز قرية الزبيدي صُعودًا إلى عُزلة المشيرق، والأخيرة تقع أسفل عزلة ظَلْمَة، وتُطل على قاع السحول، وقد دارت فيها - كما أفاد المُؤرخ مُطهر - أشرس المُواجهات.
أما المُؤرخ حمود الدولة، الذي كان مُرافقًا للذئب الأسود في تلك الحملة، فقد أنهكنا بإطنابه وسجعه، وتجاوزه لكثير من الأحداث الـمُهمة، وأوجز تلك المعركة بقوله: «وكانوا (يقصد الثوار) قد استحكموا على الطرق بإتقان ترتيب الأدراك، وانتخبوا من أهل الجرأة من لا يتزلزل عن مستقر نُزله، وإن أشفى على مدارك الهلاك».
من جهته أرجع المُؤرخ أحمد الوزير ذلك النصر لعمه الأمير، مُخالفًا غيره بالإشادة بالثوار، حيث قال: «والتحم الجيش مع المتمردين الشجعان، الذين سرعان ما انهزموا أمام الجيش الباسل، الذي لم يهب الموت، والذي لا يزال في كرٍّ وإقدام، مواليًا انتصاراته، واستمر القتال، واستمر النصر، ابتداءً من صباح ذلك اليوم إلى أثناء الليل، عندما اقتحم الأمير بنفسه وبقواته مركز ظَلْمَة، قاعدة الجبل الأشم، وسيطر عليه».
وعن أحوال القوات الإمامية المُحاصَرة في تلك المنطقة، قال ذات المُؤرخ: «وكان الأمير هو أول من وصل إلى المُحاصَرين في دار الحكومة، وعلى رأسهم العلامة عبدالله بن قاسم، شقيق سيف الإسلام أحمد بن قاسم، فأطلق سراحهم بنفسه، واحتل مواقع المُتمردين بعد أنْ أجلى العُقاب إلى ثلاثة دور خلف دار الحكومة، وتحاصر فيها».
صمد الشيخ العقاب في تلك الدور المُشرفة - حسب ذات المُؤرخ - لمدة ثلاثة أيام، وفَرض حصارًا جزئيًا على الأمير علي الوزير؛ الأمر الذي أنهك الأخير وقواته، خاصة وأنَّ ما يصلهم من الطعام كان قليلًا جدًا.
وإكمالًا للمشهد أترككم مع ما قاله ذات المُؤرخ: «واستمرت المناوشة بينهم وبين الجيش طيلة تلك الفترة، ولم يتمكن بعض رجال الجيش الذين هاجموهم من الاستيلاء على تلك الأماكن، فدعا الأمير الشيخ محمد عبدالله الصوفي، وألزمه بفتح تلك الدور المحصنة والمبنية بالحجارة، فاستدعى الصوفي أصحابه، فتلكؤوا بادئ الأمر، فصاح فيهم، وكشف مُؤخرته، كعادة القبائل لاستثارة أصحابهم، وكر وحده مُنفردًا، فتبعه رجال خولان كلهم، ففتح الله على أيديهم ما كاد يستعصي».
وعلى خلاف مُؤرخي الإمامة الذين وثقوا لأحداث تلك الانتفاضة، اعترف ذات المُؤرخ بوجود ضحايا في الجانب الإمامي، وقال مُهونًا: «وقد كانت الخسائر بين المُتمردين كبيرة، كما كان بين جيش الأمير من الإصابات ما يقارب خسائر المُتمردين».
وفي ذات السياق الملحمي، تفيد الذاكرة الشفهية أنَّ معركة معيط، وهي قرية قريبة من مركز الناحية (ظَلمة)، كانت آخر المعارك الفاصلة بين القوات الإمامية والثوار، لجأ الأخيرون خلالها - وبعد أنْ نفدت ذخيرتهم - إلى استعمال السلاح الأبيض؛ الأمر الذي أدي لاندحارهم، ومن ثم هزيمتهم.
تدمير مُمنهج
ثمة مثل شعبي دارج يقول: «ما تكسر الحجر إلا أختها»، وهو ما عمل عليه الأمير علي الوزير حين استعصت عليه حُبيش، وبمعنى أصح باقي مناطق حُبيش، استعان - كما أفاد الـمُؤرخ عبدالكريم مُطهر - بالشيخين حمود عبدالرب، ومحمد عبدالوهاب محمد، اللذين وقفا بعد أنْ مَالت الكفة لصالح الإماميين ضد الشيخ محمد عايض العقاب، وتنكرا للجوار، وللعيش والملح، وأسهما وبعض رعيتهما في إذلال الثوار، وقد كانت لهما مهمة احتلال عزلة نقيل العقاب المجاورة للعدين، والتضييق على سُكانها، والاستيلاء على منزل الشيخ الثائر محمد عايض، وقد كوفئ الشيخ حمود بأنْ ولي عمالة العدين، شلف تحديدًا، فيما كانت عمالة حُبيش من نصيب الآخر.
إلى ذلك أشارت إحدى الوثائق البريطانية - نقلًا عن الشيخ محمد مقبل الصراري - أنَّ القوات الإمامية في حُبيش لاقت مُقاومة قوية، إلا أنَّ خيانة الشيخ حمود عبدالرب وتسليمة تلك القوات بعض الحصون التي كان يملكها؛ أدت إلى هزيمة الثوار.
وتعقيبًا على الروايتين السابق ذكرهما، قال الدكتور نبيل عبدالرب (حفيد الشيخ حمود عبدالرب) إنَّ انتفاضة حبيش على أهميتها لم تكن أخذت تنسيقا مُنظمًا مع بقية مشايخ إب وتعز، وإنْ اعتبرها الجميع خط الدفاع الأول لاستقلال المناطق الوسطى، وأضاف مُدافعًا عن جدة: «ما حدث لم يكن خيانة؛ فالتجاور والتداخل الجغرافي والقبلي بين مناطق العدين وحُبيش، وخصوصًا الواقعة تحت نفوذ الشيخين حمود عبدالرب سنان والعقاب، بما فيها بني عواض، والوادي، وحرد، جعلت من الأخيرة عُمقًا ومركز إمداد لانتفاضة حُبيش، إلا أنَّ تحول الموقف عسكريًا في مُرتفعات حُبيش المُطلة على مناطق حمود عبدالرب، أدت به إلى التراجع عن دعمه للثوار».
إلى ذلك، وبالتزامن مع المُواجهات الأخيرة في حُبيش، عقد مشايخ تعز وإب مُؤتمرًا في مدينة القاعدة، وقد جاءت إشارة المُؤرخ مُطهر إليه عابرة، وقال إنَّه لم ينتظم لأولئك المشايخ أمرٌ ينافي المصالح الإمامية. وأشارت في المُقابل وثيقة بريطانية إلى نجاح ذلك المؤتمر، وأنَّ المُجتمعين اختاروا الشيخ محمد ناصر مُقبل رئيسًا لهم؛ لما يمتلكه من أسلحة تركية تُمكنه من مُقاومة الزحف الإمامي.
ولو تتبعنا سُلوكيات أولئك المشايخ حينها، لوجدنا أنَّ رواية المُؤرخ مطهر هي الأقرب للحقيقة، وهي الرواية التي أكدها المُؤرخ محمد بن علي الأكوع بقوله: «ومن جهة أخرى خذلهم (أي ثوار حُبيش) مَشايخ اللواء، فلم يواصلوا إمداداتهم من رجال، وعتاد، ومعونة، ولا شيئًا مما تعهدوا به، كما هي طبيعة فيهم».
كما كانت للخولانيين الساكنين منذ عقود في ناحية حُبيش النصيب الأكبر في تلك الانتكاسة، وهي حقيقة لم يذكرها المُؤرخان عبدالكريم مُطهر، وأحمد الوزير، وأكدها المُؤرخ محمد الأكوع بقوله: «وكادت تحل الهزيمة بالوزير؛ لولا إمدادات سريعة جاءت من صنعاء، وحصول خيانة من الخولانيين الساكنين جبل حبيش، فافتعلوا هزيمة مُصطنعة كما هي عادتهم».
أدت تلك الانتكاسات إلى انكسار الثوار، وهزيمتهم، وهروب قائدهم، وذلك في أواخر مايو من العام 1919م، وبعد خمسة أشهر من المقاومة، وقيل شهرين، والقول الأخير هو الأرجح. استبيحت بعدها بلادهم، وعاث فيها الإماميون قتلًا، ونهبًا، وخرابًا.
عمد الأمير علي الوزير بعد إخماده لتلك الانتفاضة إلى أخذ رهائن الطاعة، وحرق وتخريب حصون ومنازل الثوار، كحصن عيال إبراهيم، وداري الجأبيب وعميقة التابعين للشيخ العقاب، ودار الشيخ الحداد، وغيرها الكثير.
وإلى الأمير علي الوزير أرسل الشاعر الشيخ محمد منصور بن نصر بقصيدة طويلة، هنأه فيها بذلك النصر، اقتطفنا منها:
أين الحصـــــون الشـــامخات وأهلها
أيــــن الــعُقــاب ومــــــنـــزل الحدادِ
وعن تلك الانتفاضة وغيرها، كتب الـمُؤرخ مُطهر قصيدة طويلة، ومنها نقتطف:
وسـل عـــن حُبيـش حـين زاغ عُقابـــه
فمـــــالت عليــــه بالدمــــــار صقــــور
بطولات مائزة
قَاتل الشيخ محمد عايض العقاب قتال الأبطال، وأبلى بلاءً حسنًا، وأشاد ببطولته الأعداء قبل الأصدقاء، وحين أدركته الهزيمة؛ يمم خُطاه صوب جبل راس، وهناك ترك - حسب شهادة حفيده الشيخ عبدالواحد عبدالجليل - أهله في ضيافة أصدقاء له من بيت المأمون، ثم أكمل بعد ذلك مسيره صوب مدينة صبيا، مُستنجدًا بحاكمها محمد بن علي الإدريسي، وحين لم يجبه الأخير، يمم خُطاه صوب مدينة جدة، مُستنجدًا هذه المرة بالشريف حسين، ولكن دون جدوى.
الشيخ عبدالواحد قال نَقلًا عن والده إنَّ جَده عاد بعد رحلته القصيرة تلك إلى جبل راس، وبدأ من هناك بمراسلة الأمير علي الوزير طالبًا المُصالحة، وأنَّ الوفاق تم بالفعل بين الجانبين، ولكن بعد أنْ وافق الإمام يحيى على شرطين اشترطهما، نص الشرط الأول على عودة الشيخ العقاب إلى بلدته بأمان، ونص الشرط الآخر على تعويضه التعويض العادل، وإعادة بناء داريه اللذان قام الإماميون بهدمهما.
عاد الشيخ العقاب بعد ذلك إلى مَسقط رأسه، وفي العام 1925م تقريبًا كانت وفاته، وبتوصيف أدق - وحسب شهادة حفيده عبدالواحد - استشهاده، فقد عمد أعداؤه (لم يحدد من هم، فيما أصابع الاتهام تشير إلى الإماميين) على تسميمه مرتين، فشلوا في الأولى، ونجحوا في الأخرى، وحين حاول المقربون منه أثناء المحاولة الأخيرة انقاذه، كما فعلوا قبل أربع سنوات أثناء المحاولة الأولى، وذلك بتفتيتهم جانبًا من الذهب الموجود في رأس جنبيته، ومَزجه بالحليب، منعهم من ذلك، وخاطبهم بلكنته الدراجة: «وجبه»، أي حانت، ليلفظ بعد ذلك، وفي قرية الجراجز التابعة لعزلة نقيل العقاب أنفاسه الأخيرة، وهو لم يتجاوز بعد الـ 40 عامًا من عمره.
وأضاف الشيخ عبدالواحد أنَّ تعويضات الإمام يحيى، والتي قدرت بـ 3,000 ريـال فرنصي، وصلت بعد وفاة جده، وأنَّ عمه الكبير الشيخ مصلح محمد عايض قام باستلامها، وأعاد بها بناء داري الجبأبيب وعميقة، وعلى نمطهما القديم.
لم يقد الشيخ العقاب تلك الانتفاضة بنفسه؛ بل شاركه فيها عدد من أعيان ووجهاء منطقته، وكان الشيخان عبدالعزيز بن عبدالكريم الحداد ومحمد بن حفظ الله الزوم من أشهر من ساندوه، والأخير من أصول تُركية، ولم يرفع راية استسلامه إلا بعد أنْ أحدق به عساكر علي الوزير في مَنزله الكائن في ربع ظَلْمَة، ونازلوه مُنازلة شديدة.
أما الشيخ الحداد، فسبق أنْ تحدثنا عن بُطولته المائزة التي رسم فُصولها في إطار عُزلة الناحية، وهي البطولة التي أدت لاستشهاده، وصارت محط فخر واعتزاز أبناء جبل حُبيش قاطبة، وعنه قالوا في أمثالهم: «حداد الحروب، وحداد الرؤوس».
وقد أشاد الشيخ مُراد أمين نعمان (حفيد الشيخ العقاب) بدور الشيخين المذكورين في مُساندة جده، وقال إنَّ بينهما وأسرته مُصاهرة، وأنَّ خطباء المساجد في المناطق الوسطى كانوا يلهجون أثناء تلك الانتفاضة بهذا الدعاء: «وارض الله عن المقداد بن المقداد، الشيخ الحداد، وارض الله عن زعيم القوم، الشيخ محمد حفظ الله الزوم، وارض الله عمن خضعت له الرقاب، الشيخ محمد عايض العقاب».
خلَّد المُؤرخ محمد علي الأكوع إحدى مَواقف الشيخ محمد عايض العقاب البُطولية، والمُتمثلة بقيام الأخير بنجدة بعض أهالي قرية صائر من عُزلة بني معين في جبل حبيش 1914م، ضد الخولانيين الساكنين في ذات الجبل، الذين اعتدوا على إحدى الأسر القاطنة في القرية المذكورة، وقتلوا أحد أفرادها، وأورد ذات المُؤرخ قصيدة مُطولة لقريب الشخص القتيل الشاعر علي بن عبدالله الشامي، وفيها - أي القصيدة - ذكر لبطولة الشيخ العُقاب، ومنها نقتطف:
عز الهـــــــــدى العـالم الحاج المشار له
نجــــل العــــقــــاب ويـا للعالــم الفطن
من جهته أورد الـمُتصرف يوسف بك حسن اسم الشيخ العقاب أثناء حديثه عن تحشيد الأتراك لأبناء المناطق الوسطى للتوجه إلى لحج لقتال الإنجليز تحت راية اللواء على سعيد باشا، وقال في نقله لأحداث يوم السبت 23 مايو 1915م مٌشيدًا به: «وصل مدير حُبيش ومقدمهم الحاج محمد عقاب، وهو أسمى رجل في النفس، وعلو المدارك، وقد سبقت له مُرابطة هذه السنة في باب المندب، فهذه أول قافلة أتت من المجاهدين».
يوسف بك كان يشغل حينها منصب قائم مقام قضاء العدين، رافق مُقاتلي ذلك القضاء إلى لحج، وجاء في نقله لأحداث يوم الاثنين 15 يونيو 1915م ما نصه: «ورغمًا من حيلولة الليل سرنا بفرح ونشاط حتى أتينا السياني، وكان معي من رؤساء العشائر الشيخ حمود عبدالرب، والحاج محمد عقاب، والشيخ عبدالله علي باشا، والشيخ حسن الحميدي، والشيخ حمود بن أحمد ملهي الشهاري».
نعت المُتصرف يوسف بك للشيخ العقاب بـ (الحاج) يعود أصلًا إلى صلاح ذلك الشيخ، وتدينه الفطري، وهي حقيقة أكدها الشيخ مُراد أمين العقاب، وأفاد الأخير أنَّ جده تأثر بالفكر الصوفي السائد حينها، وأنَّ أبناء المنطقة بدأوا لذات السبب بالتوافد إليه، وارتضوه مُصلحًا لأحوالهم، وحكمًا لقضاياهم.
المُؤرخ محمد الأكوع لم يبتعد - هو الآخر - عن تلك التوصيفات، وقَال عن الشيخ العقاب: «كان بَطلًا من الأبطال، وزعيمًا مَرموقًا، ذا دين متين، وصلاح عن يقين وتقوى، عليه مسحة فقه وتصوف، وهو ثالث رجالات اليمن الذين تفرسوا في ذكاء وألمعية بالإمام يحيى، فمجرد ما رآه قال: ما معناه هذا يؤزر أهل اليمن الحصير، فكانت فراسته صادقة، فنال الإمام يحيى من اليمانية كل منال».
إنها حُبيش.. قِصة صُمود، ومَكمن رفض، وفَاتحة مجد، وأصل تحدِ، تَوزعت على مُرتفعاتها الشهباء بُطولات أجيال وحِقب، وتهاوت في أوديتها الخضراء مَراتب ورُتب، وتَهادت من سُفوحها الخضراء عَبرات وعِبر؛ ولهذه الاعتبارات وغيرها؛ وقع اختيارها لمُواجهة التوغل الإمامي المُتوكلي في لحظاته الأولى، فأدت دورها المرسوم بعناية، تحت قيادة ابنها البار الشيخ محمد عايض العقاب.
ولولا الخذلان الذي اعترى تلك الانتفاضة المائزة، والخيانة التي لازمت نهايتها، لكانت أوقفت ذلك التوغل، وطمست مَلامح أربعة عُقود من الاعتساف والظلم.
مخاطر حوثنة المناهج
صديقي الذي خسر وظيفته وزوجته بسبب كلب
حين يتحوّل الفشل إلى خيانة وطنية
هل تستعصي ادوات ايران
أعجوبة مذهلة تنقذ أبناء محافظة يمنية وتفرح قلوبهم