آخر الأخبار
الخميس 12 يونيو 2025
“أمريكا أولاً”: بين الاحتجاجات المتصاعدة وإرهاصات التحول السياسي
الساعة 10:05 صباحاً
توفيق الحميدي توفيق الحميدي

وأنا أتابع المظاهرات التي تفجرت في الولايات والمدن الأمريكية احتجاجا على سياسات الرئيس دونالد ترامب، يتبدى لي مشهد يعكس حجم الانقسام العميق الذي يشق المجتمع الأمريكي. هذه الاحتجاجات، التي اجتاحت الشوارع من الحواضر الكبرى إلى المدن الصغرى، لا تبدو مجرد رد فعل لحظي، بل تعكس قلقًا متراكمًا إزاء شعار “أمريكا أولاً”، الذي تبناه ترامب ورفعه في قلب خطابه السياسي.

هذا الشعار، الذي يقوم على رؤية قومية تضع المصالح الأمريكية فوق كل اعتبار، أثار سجالات داخلية ودولية واسعة. تساؤلات كثيرة طُرحت حول مستقبله: هل هو شعار عابر سيطويه الزمن، أم أنه يؤذن بمرحلة جديدة تُعاد فيها صياغة قواعد السياسة الأمريكية والعالمية؟

شعار “أمريكا أولاً”، في حقيقته، لم يكن مجرد تعبير عن نزعة قومية انعزالية، بل جاء مدججًا بأدوات القوة الحديثة، متسلحا بسطوة المال وتقدم التكنولوجيا، ومستندًا إلى آلة إعلامية ضخمة ساعدت في ترسيخ حضوره في الوعي العام. وقد اتخذ من الحزب الجمهوري منصة لاستعادة مجده السياسي، وإعادة إنتاج القوة الأمريكية بلبوس جديد يمزج بين الحنين إلى “عظمة أمريكا” والسعي لفرض الهيمنة بأساليب أكثر دهاء. إنه مشروع سياسي متكامل، يحاول إعادة تعريف دور الولايات المتحدة في الداخل والخارج، لا عبر الخطاب وحده، بل بالاعتماد على التحالفات الاقتصادية، ونفوذ المؤسسات، والرأسمال السياسي والإعلامي.

ويبدو أن هناك استفاقة متزايدة لكوابح الدولة العميقة، ممثلة في أجهزة القضاء، والأحزاب التقليدية، والشركات العابرة للقارات، فضلًا عن توازنات المصالح الشخصية والنخب السياسية. هذه المنظومة، بكل تعقيداتها، غالبًا ما تشكل شبكة مقاومة لأي زعيم مندفع يسعى لتجاوز التقاليد المؤسسية. وفي حالة ترامب، بدت هذه الكوابح أكثر يقظة، مدفوعة بقلق من تمزيق الأعراف الديمقراطية، وتهديد مصالح راسخة حافظت على استقرار النظام الأمريكي لعقود.

على المستوى الدولي، تتزايد الانتقادات من قبل شركاء وحلفاء تقليديين للولايات المتحدة. التخوفات تتعلق بانعكاسات هذا التوجه على منظومة العلاقات الدولية، من التجارة إلى الأمن، وصولًا إلى التعاون متعدد الأطراف. توازيًا، تؤكد الاحتجاجات الداخلية أن هذا النهج يواجه مقاومة متنامية. لكن في المقابل، لا يمكن استبعاد احتمال أن يُحقق هذا الشعار تحولًا فعليًا يعيد تشكيل التوازنات السياسية، سواء داخل أمريكا أو في المنظومة العالمية.

وفي حال أثمرت سياسة “أمريكا أولاً” نتائج ملموسة، فإن مرحلة ما بعد ترامب ستبقى مشدودة إلى هذا التحول، تمامًا كما ارتبطت محطات تاريخية عديدة بشعارات قومية مشابهة. تجربة “بريكست” في المملكة المتحدة مثلا ، التي رفعت شعار استعادة السيادة، أحدثت تغييرًا جوهريًا في العلاقة مع أوروبا، لكنها تركت خلفها انقسامًا داخليًا عميقًا. أما في فرنسا، فقد أخفق شعار “فرنسا للفرنسيين” الذي رفعته مارين لوبان في الوصول إلى الرئاسة، إلا أنه تمكن من التأثير في سياسات الهجرة والخطاب العام. وفي المجر، استطاع فيكتور أوربان ترسيخ نهج قومي طويل الأمد، بينما تراجعت تجربة ماتيو سالفيني في إيطاليا بسرعة.

من هنا، يبقى السؤال مفتوحا : هل سيكون شعار “أمريكا أولاً” بداية لتحول سياسي واسع، أم مجرد محطة عابرة في تاريخ السياسة الأمريكية؟ إن الغضب الشعبي في الداخل، والمخاوف المتزايدة في الخارج، يشيران إلى أن الطريق ليس ممهّدًا أمام هذا التوجه، لكن تجارب التاريخ تثبت أن الشعارات القومية، في لحظات معينة، تملك قدرة استثنائية على إعادة تشكيل الواقع السياسي وتغيير المعادلات الكبرى.


إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
آخر الأخبار