آخر الأخبار


الأحد 15 يونيو 2025
بعد الهجوم الإسرائيلي الكاسح على إيران، ورد الأخيرة عليه، توجهت الأنظار إلى اليمن لمعاينة رد فعل الحوثيين الموالين لطهران وما إذا كانوا سيعلنون استعدادهم للمشاركة في الردود العسكرية الإيرانية. لكن باستثناء عبارات التضامن المستكين، مع إيران وحقها في الرد، نأت الميليشيات الحوثية بنفسها عن المشاركة في أي رد من هذا النوع.
وكانت ردود أطراف يمنية قد اتسمت بمعظمها، إما بالصمت أو الشماتة والتشفي، بسبب ما يعتبره البعض "جرائم حرب" ارتكبتها إيران خلال تدخلاتها "السافرة" في شؤون اليمن، وعدد من البلدان العربية، منذ ما يزيد على ثلاثة عقودٍ من الزمن. واعتبر البعض أن ما جرى "أكبر من هزيمة وأبشع من إهانة"، وتساءل عن الكيفية التي يمكن لإيران أن ترد بها على قتل قادتها، وعلمائها وتدمير بنيتها، وتوقع أن تكون "هذه الهزيمة هي نهايتها كنظام وكدولة، ولو بعد حين على يد الشعب الإيراني".
أبعد من ذلك هو أن البعض رأى أن "أسوأ ما فعلته إيران هو أنها جعلت المسلمين والعرب على الحياد في هذه المواجهة، لأنهم لم يشعروا يوما أن إيران قوة مضافة للإسلام، بل صاروا على يقين بأن لا فرق بين التدمير الذي تفعله إسرائيل بالعرب، وبين ما تفعله إيران". ولذلك أسباب قد يحمل بعضها الكثير من الوجاهة لدى اليمنيين خصوصا، أولها، أن تبني ودعم إيران لجماعة الحوثيين، مكَّن هذه الجماعة من الانقلاب على الدولة اليمنية بقوة السلاح، وساعدها على استخدام سلاح الدولة وسيلة للتسلط والاستبداد وقهر إرادة شعب بأكمله لصالح فئةٍ طائفية مذهبية صغيرة. وثانيها، أن هذه الجماعة تحولت بدعم إيران، إلى عامل مزعزع لاستقرار المنطقة بأسرها، بعد أن استهدفت بعض دول الجوار، واضطرت السعودية إلى تشكيل وقيادة تحالف عسكري لدعم استعادة الدولة الشرعية في اليمن. وثالث تلك الأسباب، أن جماعة الحوثيين، ومن ورائها طهران، استدعت حروبا أوسع نطاقا بعد أنشطتها الهجومية، على خطوط الملاحة البحرية في البحار المحيطة باليمن، واستهدافها بعد ذلك مدنا ومناطق حيوية داخل إسرائيل، وكل ذلك بزعم نصرة الفلسطينيين في غزة، إلا أن كل ذلك لم يُحدث فارقا، ولم يُصِب إسرائيليا واحدا بأذى، قدر ما تسبب في ردود فعل أميركية وإسرائيلية وبريطانية، كلفت اليمن، وليس الحوثيين وحدهم، خسارة الكثير من مكاسب البلاد وبناهها التحتية، وإعادتها عقودا من الزمن إلى الوراء.
الملاحظ بجلاء، حتى عند من كانوا متفائلين ومستبشرين في اليمن بـ "الثورة" الإيرانية، من غير الحوثيين، أنها خيَّبت الكثير من آمالهم، وتحتاج إلى إعادة مراجعة، تعتمد ليس على المقدمات العاطفية، بل إلى النتائج العملية التي وصلت إليها التجربة الإيرانية بعد نحو خمسين عاما من الثورة.
نظرة تاريخية
لم تكن علاقة إيران مع اليمن طبيعية في أي مرحلة من التاريخ، قديمه ووسيطه وحديثه، منذ ما قبل اعتناق "فارس" للإسلام، ومرورا معه عبر العصور إلى حين مجيء "المرشد" علي الخميني ومن بعده "المرشد" خامنئي. هذا ما يمكن إدراكه بلا عناء ولا شديد ذكاء، ولكن من خلال البحث والدراسة والتأمل بتبصر وعقلانية وأناة وحياد، وهو أن ثمة فوارق نظرية وتطبيقية متباينة، بين فهم إيران للإسلام وفهم اليمنيين ومعهم كثير من العرب له، حيث إن لإيران فلسفتها الخاصة، استنادا إلى تاريخها قبل الإسلام، تختلف فيه كثيرا عن فلسفة كل محيطها العربي والإسلامي، خصوصا من حيث طريقة التفكير وأسلوب العمل.
من حيث تدري إيران أو لا تريد أن تعرف، فإن سياساتها "العربية" تفصح عن إشكاليتين في فهم علاقتها التاريخية مع العرب وإسلامهم، فيهما الكثير من الالتباس، وسوء الفهم المشترك أو المتبادل، إن جاز التعبير.
أولهما.. شعور إيران بالتذمر، من جهة أنها لم تتمكن طوال مئات السنين من فرض رؤيتها الخاصة للإسلام على العرب، وذلك من خلال إحكام سيطرتها على العالم الإسلامي السني الواسع من حولها، وخصوصا العربي، وذلك كما فعلت السلطنة العثمانية.
في الذهنية الإيرانية تلك عقد متحكمة إلى اليوم تجاه العالم الإسلامي، يصعب فهمها أو إنكارها بدليل أن السياسات التي تنتهجها طهران، منذ ما بعد خميني وحتى اليوم، بما لا يختلف حوله اثنان، أنها تطبيقات فاشلة أو محاولات بائسة من تحقيق "العدالة" وذلك من وجهة نظر بعض الفاعلين، في مفاصل صنع القرار في طهران، لكن كثيرين يعتقدون أن "الانتقام" من التاريخ في هذه الحالة، وبالطريقة التي تتبعها طهران إنما هي "عدالة ثأرية تصل إلى حد الهمجية" وليست الطريقة المتناسبة مع حقائق التاريخ والجغرافيا لـ"تصحيح" معادلات العلاقة المفترضة مع العرب!
ثاني هاتين الإشكاليتين، هي ما تركته نهاية حربها مع عراق صدام حسين، حين قال خميني إنه بعد قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 598 الذي اعتمد بالإجماع في 20 يوليو/تموز 1987، اضطر إلى تجرع "كأس السُّم المُلوّث بقبول القرار، وأشعر بالعار". رغم تلك الهزيمة العسكرية والقانونية، فإن ذلك قاد إلى طموح قاتل في طهران، نحو امتلاك سلاح استراتيجي ذي "تدمير شامل" يمحو عار تلك الهزيمة، ويعيد وضع إيران على الخارطة كأمة.
بعد كل ذلك العناء الذي واجهته كباحث في التجربة الإيرانية، وجدت أن هذه "الأمة" القابعة في محيط جغرافي وسياق تاريخي معقد ومتداخل، ليست فقط نصا غير جامد، بل متحرك من داخله بعنفوان، بدليل تفاعلاته المتضاربة، المفاجئة والمتكررة، لكنه مغلق على خارجه بإحكام لدرجة يتعذر معها التكهن بطبيعة مآلاته المحتملة، حتى على المَدَيَيْن المنظور أو المتوسط.
التنافس الإقليمي
رغم تقارب السعودية وإيران حجما من حيث المساحة والثروات، إلا أن الأولى تبدو اليوم أفعل وأوسع من حدودها جيوسياسيا، وتأثيرا في الاقتصاد العالمي، بينما تنكفئ الأخيرة على نفسها أكثر فأكثر، في شكل من العودة إلى جذورها، التي لا يجدي معها في عالم اليوم إهدار مزيد من الوقت في حياكة سجاد لا طلب عليه في السوق.
نسبيا نجحت "الثورة" الإيرانية في بداياتها الأولى، في تشكيل صورة الحلم عند بعض العرب بعالم إسلامي كبير وجديد، لكنها على مسرح الواقع أخفقت كثورة في إيجاد ميزان يضبط إيقاع الأداء، بين أطرافها الداخلية وأذرعها الخارجية، لأسباب يدركها الإيرانيون قبل غيرهم، أولها من وجهة نظر بعض دارسي التجربة الإيرانية، هو الإصرار على البقاء ضمن حالة من "السنتمنتاليتية" التاريخية أو الرومانسية المريضة المزمنة دون الذهاب إلى مرحلة انتقالية أخرى كتلك التي انتقلت إليها، بمرونة عالية، أمم كثيرة من حولها، هزمتها الحروب كجارتها الأقرب تركيا أو ألمانيا، وإيطاليا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية.
خلال سنوات تلك الحرب الثماني المأساوية مع العراق، حاول "مثقفون" لا ساسة عرب كثيرون ترجيح وجهة النظر القائلة، بأن هناك خللا استراتيجيا في التعامل مع "الثورة" الإيرانية، يجب تصحيحه. هواري بومدين، الرئيس الجزائري الراحل، كان يحذر من أنه من دون تصحيح هذه العلاقة فإن إيران "الإسلامية" ستكون هي "المستعمر البديل"، بل إن مثقفين سياسيين عربا توقعوا بأن حروب المنطقة في المستقبل، لن تكون عربية-إسرائيلية بل عربية-فارسية، لكن صدام حسين، الرئيس العراقي الراحل كان حاسما، ومتحمسا بدوافع صريحة من الغرب، خصوصا فرنسا اذ كان استضاف "مفكر الثورة" خميني في "نوفل شاتو" وذلك لمواجهة تأثير شعارات "الثورة" الإيرانية، في الشارع العربي. تجلى ذلك أكثر بعد أن دعا عباسي مدني زعيم "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" في الجزائر بعد سنوات من "الثورة" الإيرانية، مواطني بلاده إلى الاستعداد لانتقال تدريجي، لتطبيق الشريعة الإسلامية، ومع أن مدني زعيم سني، إلا أن دعوته تلك، جاءت مستلهَمة من انتصار الثورة الإسلامية في إيران، وذلك إلى درجة جعلت من إلهام الثورة الإيرانية بمثابة الخطر المهيمن حينذاك على تفكير أغلب القادة العرب.
لم تنكشف نوايا إيران، إلاّ بُعيد سنوات أخذت خلالها تعيد التوثب على عناوين المشهد في المنطقة. كان محمود أحمدي نجاد، الرئيس الإيراني الأسبق الأكثر انفتاحا في مخاطبة السعودية، خلال حكم الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز، ولكن بلغة شعبوية خالصة، لها علاقة بالأهداف الانتخابية في إيران، أكثر مما لها صلة بالحاجة إلى وعي، بما يجب أن تكون عليه تقاليد العلاقات بين الدول ذات المصالح والجوار المشترك.
ما تيقن لديَّ خلال عقود من دراسة العلاقة بين إيران والعرب، هو أن القرار الذي ترسخ لدى راسمي السياسة في طهران كان بيد خامنئي و"الحرس الثوري" وليس بأيدي الرؤساء الإصلاحيين أو المحافظين، الذين كانوا ولا يزالون إلى اليوم يمارسون دور "الواجهة المدنية" إن جاز التعبير للتغطية على ما يجري في عمق الداخل الإيراني، على يد الخميني ومن بعده خامنئي وحرسهما الثوري.
لا أتحدث هنا عن الإيراني العادي، بل عن ذلك "الفقيه" أو "المفكر" الذي يمضي عقودا من حياته، قابعا خلف المكتبات، ليخرج في نهاية حياته، بما يعتقد أنه تصحيح لجوهر الإسلام، ومن ذلك ما فعله علي شريعتي وآخرون كثيرون مبهرون غيره، ليتضح في النهاية أنهم يتحدثون عن الإنسان في نموذجه الإيراني، وليس بالضرورة عن تلك الشخصية التي حاولت ثورة الخميني الإسلامية تنميطها وقولبتها، بما يتفق ومنظورها الخاص للإسلام.
نقلا عن مجلة "المجلة"
سؤال المرشد
خلاصة الكلام
من جاريةٍ في اليمن إلى صواريخَ في عمق طهران؟
من يدري؟