آخر الأخبار


الثلاثاء 17 يونيو 2025
في ذروة التصعيد بين إيران وإسرائيل، كانت كل التوقعات تشير إلى أن جماعة الحوثي ستندفع بكامل قوتها إلى
خط المواجهة، وأنها ستستثمر الضربة الإسرائيلية في العمق الإيراني لإعادة تقديم نفسها كفاعل مركزي فيما يسمى "محور المقاومة"، بل كأداة ردع في البحر الأحمر.
فمنذ بدأت الجماعة عملياتها ضد إسرائيل أواخر العام 2023، لم تُخفِ رغبتها في التموضع ضمن الخط الأول للمواجهة، وذهبت بعيدًا في خطابها التعبوي، حتى بدا أنها تسعى لانتزاع مكانة حزب الله في المعادلة الإقليمية، ومع ذلك، جاءت اللحظة المنتظرة، فجاء الرد الحوثي أقل كثيرًا مما انتُظر، من حيث الحجم والضجيج والتبني العلني.
نفّذت الجماعة ضربات فعليّة، هذا صحيح، فقد أكدت مصادر عسكرية يمنية إطلاق طائرات مسيّرة وصواريخ باليستية باتجاه إسرائيل، من مواقع متعددة في المحويت ونهم وصرواح وصعدة، تزامنًا مع الموجات الأولى للرد الإيراني على الهجوم الإسرائيلي الذي استهدف منشآت نووية ومقرات للحرس الثوري في طهران، وأعلنت إسرائيل لاحقًا أنها اعترضت مسيّرات حوثية جنوب البلاد، وأشارت إلى صاروخ قادم من اليمن لم يُعترض، لكنّ اللافت أن جماعة الحوثي لم تُعلن رسميًا مشاركتها، ولم تُرفق الضربة بأي بلاغ عسكري أو تهديد مباشر كما جرت العادة، بل حتى خطاب عبد الملك الحوثي اكتفى بتأييد إيران “بكل ما نستطيع”، دون تفاصيل، ولا حديث عن إغلاق باب المندب أو أي تصعيد استراتيجي واضح.
هذا السلوك بدا لافتًا، خصوصًا عند مقارنته بخطابات سابقة لزعيم الجماعة، كان قد توعّد فيها بفرض حصار بحري على إسرائيل، بعد سلسلة استهدافات مباشرة طالت مطار بن غوريون، وسبقها تهديد صريح بفرض حصار جوي على تل أبيب، كان ذلك في مرحلة أرادت فيها الجماعة ترسيخ صورة "الذراع الجنوبية الرادعة" داخل ما يسمى بـ"محور المقاومة".
إلا أن ما أعقب الهجوم الإسرائيلي في 13 يونيو/حزيران 2025 – في ما سُمّي بـ"حرب الليل" – كشف عن تحوّل ملحوظ؛ لم يُطلق الحوثي أي صاروخ يُحسب له من حيث الدقة، كما فعل في السابق، بل غاب تمامًا عن الصورة، تاركًا مئات الصواريخ الإيرانية وحدها تعبر السماء نحو إسرائيل، دون أن تنجح في تحقيق إصابة مباشرة على منشأة حيوية واحدة، على عكس ما أنجزته الجماعة سابقًا بصواريخ نوعية أصابت تل أبيب فعليًا.
ذلك التباين في الأداء لا يُخفي حقيقة أن الحوثي، في هذه الجولة بالذات، قرر الانسحاب خطوة إلى الوراء، أو بالأحرى، اختار أن يكون جزءًا من "رد غير مباشر" لا يُعلن عنه ولا يُتباهى به، وهنا تتضح ملامح الدور الوظيفي الذي تنفّذه الجماعة، لا في إطار اندفاع عاطفي، بل ضمن شبكة توزيع أدوار تحكمها القيادة الإيرانية، وتُدار وفق منطق الاستنزاف الطويل لا المواجهة المفتوحة.
فالجماعة تُدرك أن المشهد الإقليمي يدفع نحو تسويات كبرى، وهي تأمل – ضمن هذه الحسابات – أن تحصل على مكاسب سياسية توازي تلك التي حصل عليها حلفاؤها في حزب الإصلاح، الذين عادوا للواجهة بقوة *في ظل الانشغال الإقليمي بحرب غزة والملف الإيراني.
هذا الفهم الحوثي العميق لسيكولوجيا القبائل اليمنية، وللتوازنات المذهبية، يمنحها قدرة استثنائية على استثمار اللحظة الإقليمية، فالجماعة تعرف متى ترفع الصوت باسم القدس، ومتى تصمت لتكسب اعترافًا، ومتى تستخدم صواريخها لتوجيه رسالة، ومتى تكفّ عنها لتفتح بابًا خلفيًا للتهدئة، وبهذا المعنى، فإن الحوثي لا تتحرك كمليشيات خارجة عن السيطرة، بل كفاعل سياسي–عسكري مدرك تمامًا لأبعاد الصراع، ويتقن اللعب داخل الحقول المعقدة للتفاوض، سواء مع طهران أو حتى مع واشنطن عبر الوسطاء.
ومع أن هناك من قد يرى في هذا السلوك دليلًا على استقلالية الجماعة، فإن الواقع يشير إلى أن "الحوثي" لم تخرج عن النسق الإيراني، بل باتت أكثر وعيًا بدورها الوظيفي، فحين سنحت لها الفرصة لتتصدّر واجهة الرد على إسرائيل، اختارت أن تتراجع، وأن تترك طهران وحدها في العلن، مكتفيًة بدور الظل، وهذه لحظة كاشفة، تؤكد أن ما يُدار في الغرف المغلقة بين طهران وصنعاء هو أكبر من كل التصريحات، وأن توزيع الأدوار بين الوكلاء لم يعد عشوائيًا، بل مدروسًا بإيقاع محسوب.
لقد كشفت هذه الجولة عن مفارقة مركبة، جماعة الحوثي التي تجيد الدقة حين تريد، لم توجّه هذه الدقة حين كان الموقف أحوج إليها، مفضّلًة الانتظار على المغامرة، وهذا ما يؤكد أن الجماعة باتت تتحرك وفق منطق حسابي بارد، يدرك أن أي انفلات من الضبط سيُفقدها ما راكمته من أوراق سياسية وعسكرية خلال السنوات الأخيرة.
لذا يبدو أن الحوثي، رغم خطابها التعبوي، تسعى إلى التموضع داخلها المنطقة كرقم لا يمكن تجاوزه، وهذه هي القيمة التي تسعى لتثبيتها، أنها لم تعد مجرد تهديد أمني، بل طرف سياسي–مذهبي يعرف توقيت إطلاق النار، كما يعرف توقيت الصمت، وبين الصاروخ الذي لم يُطلق، والعلاقة التي لم تُقطع، تتشكل صورة الحوثي الجديدة، صورة الفاعل الذي يراوغ أكثر مما يواجه.
حساب الحوثي عند إسرائيل سيتم تصفيته بعد الانتهاء من تصفية حساب الرأس الكبيرة في طهران، ومهما تذاكى الحوثيون لتجنب هذا التصادم القوي بين إسرائيل وإيران فإن هذا لن يسقطهم من كشف الحساب، فهم ليسوا فقط جماعة انقلابية بل جماعة مصنفة على قوائم الإرهاب، وتمثل أحد أذرع الحرس الثوري الإيراني في خاصرة الجزيرة العربية.
وما دامت المعركة تتخذ طابعاً استراتيجياً يتجاوز الجبهات المباشرة، فإن الحوثيين سيُدرجون تلقائياً ضمن بنك الأهداف، لأنهم ليسوا مجرد وكلاء، بل جزء من منظومة تهديد إقليمي تشمل تهريب السلاح، واستهداف الممرات البحرية، وتنفيذ أجندات الحرس الثوري تحت راية "القدس" والشعارات الفارغة.
قد يتأخر الرد الإسرائيلي على صنعاء، لكنّ الحساب لن يُلغى، بل يُرحّل إلى لحظة تسوية شاملة للنفوذ الإيراني في المنطقة، آنذاك، لن تُجدي خطابات "الاستقلال" ولا "الوساطات" ولا التلويح باليمن كملف إنساني، فالذي انخرط في حرب إقليمية سيدفع الثمن كاملاً، ولو بعد حين.
نقلا عن "العين الاخبارية"
كيف ارتد مشروع إيران على نفسها؟
سبب الكراهية
نموذجان تطبقهما إسرائيل في إيران
بين الصواريخ والصفقات.. الحوثي يختار طريقًا ثالثًا
في مديح الرواية
حرب لعدة أسابيع … نتانياهو يطمح بأن يتجرع خامنئي كأس السم بنفسه