آخر الأخبار


الاثنين 26 مايو 2025
في عالم المال والأعمال، تمثل الثقة حجر الأساس الذي يقوم عليه النظام المصرفي، لكن حين تُساء إدارة هذه الثقة أو تُستغل بسطحية قاتلة أو تعطى لمن لا يستحقها، فإن النتيجة تكون كارثية على المستفيدين والعملاء، ما حدث للصحفي منصور الدبعي يُعد أنموذجًا صادمًا لكيفية تراكم الاختلالات المؤسسية والإجرائية، لتحوّل خطأً مهنيًا إلى خسارة جسيمة تمس أرصدة وحقوق فئات مستضعفة من الأيتام والفقراء، القصة بدأت عندما تم اختراق حساب واتساب الخاص بمنصور من قبل أحد المحتالين، والذي تواصل عبره مع دكان القاسمي وطلب صرف حوالة مالية قدرها (15) ألف ريال سعودي و (318) ألف ريال يمني باسم عباد عوض محسن الشيخ (تبين لاحقًا أنه متوفى)، وهي أموال لا تخص الصحفي منصور، بل أمانات تخص بحسب تأكيده فقراء وأيتام، الغريب والمثير للاستغراب أن الدكان تجاوب مع هذا الطلب، رغم أن اتفاقه المسبق مع العميل ينص بوضوح على عدم صرف أي مبلغ يتجاوز (100) ألف ريال يمني إلا بعد اتصال مباشر للتأكد من هوية صاحب الحساب، إلا أن هذا الاتفاق وان كانت طريقته مخالفة للأعراف المصرفية تم تجاوزه من قبل الدكان.
ووصلت هذه الحادثة إلى مستوى أكثر فداحة حين تبين أن الشخص الذي استلم الأموال قدّم بطاقة هوية مزورة باسم شخص متوفى، في مشهد يُظهر أن عمليات التحقق والتدقيق في بعض مؤسساتنا المالية قد تحوّلت إلى مجرد إجراءات شكلية تفتقر إلى الفعالية، وعلى الرغم من اعتراف موظف الدكان بأنه انتابه الشك أثناء تنفيذ العملية، خصوصًا عندما طلب المحتال تحويل المبلغ إلى عملة الدولار، وهو تصرف غير معتاد من العميل في تعاملاته السابقة، إلا أنه لم يبادر إلى التواصل مع العميل للتحقق من صحة الطلب، ما يعكس ضعفًا في كفاءة التدريب النوعي امتثالًا لقانون مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وتعليمات البنك المركزي ذات الصلة، ومن المؤسف أيضًا أن الدكان لم يرسل إشعار السحب – الذي تم بتاريخ (19) مارس – عبر الرسائل النصية القصيرة إلا في (8) أبريل، أي بعد مرور نحو عشرين يومًا من تنفيذ العملية، بحسب تأكيد الصحفي منصور. وهو ما حرمه من فرصة الاكتشاف المبكر لمحاولة الاحتيال واتخاذ ما يلزم من إجراءات، في مؤشر واضح على وجود قصور مؤسسي وتراخٍ في تطبيق الأنظمة التقنية والإجرائية، لا يرقى إلى الحد الأدنى من معايير الأمن السيبراني.
النتائج لم تكن مجرد خسارة مالية لمنصور، بل ضياع ثقة مجتمعية بمؤسساتنا المصرفية التي يفترض أنها تحفظ الأمانات وتلتزم بالحد الأدنى من إجراءات التحقق والعناية الواجبة بالعملاء، إن التعامل مع تطبيقات المراسلة كوسيلة رسمية لتأكيد عمليات مالية، خصوصًا في مبالغ كبيرة، يُعد أمرًا غير مهني، ومجازفة خطيرة تفتح الباب أمام كل محتال يعرف من أين تُؤكل المؤسسات الرخوة، والمؤسف أكثر أن القصور في هذه الحالة لم يكن فرديًا أو لحظيًا، بل منظوميًا، وامتد من خرق الأعراف المصرفية، إلى ضعف التحقق، ثم تأخر التنبيه، وكلها عناصر تصنع بيئة خصبة للاحتيال.
ولعل القرار الأخير الصادر من البنك المركزي اليمني في عدن بوقف التعامل مع شبكة "هلا موني" التابعة لدكان القاسمي هو إشارة مباشرة إلى وجود مشكلات هيكلية تتعدى الحادثة الفردية، رغم أن الأسباب لم تُعلن رسميًا بعد، وما لم تُراجع هذه المؤسسات أدواتها التقنية وإجراءاتها الأمنية بشكل جذري، فإن القضايا المشابهة ستتكرر، والثقة التي تُبنى ببطء ستنهار سريعًا.
وفي ضوء ما سبق، فإن المسؤولية القانونية والأخلاقية تقع بشكل كامل على دكان القاسمي، بوصفه الجهة التي أخلّت بالتزاماتها الإجرائية المفترضة تجاه العميل، فقد ثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن الدكان خالف صراحة بنود الاتفاق المعتمد مع العميل، والذي ينص على ضرورة التواصل الهاتفي قبل تنفيذ أي عملية صرف تتجاوز سقفًا ماليًا معينًا، وهو ما لم يحدث، كما أن صرف حوالة بناءً على مراسلة عبر تطبيق "واتساب"، دون التأكد من هوية المرسل أو إجراء تحقق متعدد الخطوات، يُعد إخلالًا جوهريًا بواجبات الحيطة الواجبة في المعاملات المصرفية، خاصة في ظل ازدياد وتيرة الجرائم الإلكترونية، وتجدر الإشارة إلى أن تنفيذ إجراءات مالية من قبل مؤسسة مصرفية استنادًا إلى رسائل "واتساب" يُعد مخالفًا للقوانين والتعليمات الرقابية والأعراف المصرفية المستقرة، حتى وإن تم بموافقة العميل، فما بالنا إذا تم ذلك دون علمه أو موافقته، خصوصًا في ما يتعلق بمبالغ تتجاوز الحد المتفق عليه وهو (100) ألف ريال يمني.
يضاف إلى ذلك أن استخدام بطاقة هوية مزورة باسم شخص متوفى، دون كشفها من قبل الموظف المختص أو النظام الأمني في دكان القاسمي، يعكس خللًا واضحًا في منظومة مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب ومنظومة التحقق والتحصين الداخلي والتدريب، وتزداد جسامة التقصير حين يُلاحظ أن إشعار السحب لم يُرسل إلا بعد مضي ما يقارب العشرين يومًا من وقوع العملية، ما سلب العميل فرصته في التفاعل الفوري واتخاذ ما يلزم من إجراءات.
بناءً على ما تقدم، فإن دكان القاسمي مُطالب بتحمل كامل المسؤولية وتقديم تعويض فوري وشامل للعميل عن المبالغ المنهوبة دون تحميله عبء الخطأ الذي لم يكن طرفًا فيه، كما يُعد هذا التعويض واجبًا لا يسقط بمجرد الإشارة إلى تعرض العميل للاختراق، بل هو التزام مباشر ناشئ عن تقصير مؤسسي في الالتزام بالضوابط المهنية، ومن هنا، فإن إنصاف المتضرر لا ينبغي أن يكون خيارًا خاضعًا للاجتهاد، بل واجبًا قانونيًا وأخلاقيًا لا يقبل التسويف أو التجزئة.
ويجب على البنك المركزي اليمني في عدن اتخاذ إجراءات حازمة وشفافة تجاه ما حدث، بوصفه الجهة الرقابية، لضمان حقوق المتضرر ومنع تكرار مثل هذه الحوادث، كما يتعين عليه فتح تحقيق فوري وشامل في القضية، وتحديد أوجه القصور المؤسسي والرقابي بدقة، واتخاذ التدابير اللازمة، سواء من خلال فرض عقوبات على المؤسسة المخالفة، أو من خلال إلزامها بتعويض المتضرر تعويضًا كاملاً وفوريًا، كما تقع على عاتقه مسؤولية توجيه البنوك وشركات الصرافة بعدم استخدام أدوات تواصل غير آمنة كـ"واتساب" لتنفيذ العمليات المالية، والتأكيد على ضرورة الالتزام الصارم بوسائل التحقق المباشر والمعايير التقنية المعتمدة.
ويُعد صمت البنك المركزي أو تردده في التعامل الحازم مع هذه الحادثة إخلالًا بمسؤوليته تجاه حماية النظام المالي وضمان العدالة في العلاقة بين المؤسسات المالية والعملاء، ومن هذا المنطلق، فإن الموقف المنتظر من البنك المركزي لا يقتصر على الإشراف الفني، بل يجب أن يتجسد في خطوات عملية تعيد الاعتبار للعميل المتضرر وتبعث برسالة واضحة بأن حقوق الناس ومصالحهم تقع في صلب أولوياته، وأن التقصير، أياً كان مصدره، لن يمر دون مساءلة.
أمي غنيمة
عن الدكتور عبدالعزيز المقالح
فضيحة "دكان القاسمي"، تجاوزات تقوض الثقة المصرفية
الهيمنة الحوثية إلى أين؟
مستحيلات يمنيّة… بعد ربع قرن على الوحدة
في ركاكة التدليس الفلسفي لإدانة الحضارة الإسلامية