آخر الأخبار


الاثنين 19 مايو 2025
خرجتُ من داري في زمهرير الظهيرة، تلسعني شمس صنعاء اللاهبة كأنها جمرٌ مسجورٌ في كبد السماء. لهاث الصيف في هذه المدينة الجافة، المغبرة، لا يرحم، وكأنها تُعاقب ساكنيها على محبة الحياة.
وجهتُ خُطاي نحو سوق الكويت لأشتري بعضًا من اغصان القات الهمداني من صاحب البلاد "مهيوب"، واتصلت بصديقي ليُعجّل بمجيئه، كي نذهب سويًّا إلى مائدة الغداء.
أثناء الانتظار، بدأتُ أبحث عن ظلٍ يحميني من عنفوان الشمس، عن شجرةٍ واحدةٍ، عن أي وريفٍ يصدّ عني هذا القيظ الهمجي... فلم أجد.
تذكرتُ بنجلور، تلك المدينة الهندية الساحرة، التى زرتها قبل ست سنوات ،حيث تتشابك الأشجار فوق الأرصفة كأنها سقف سماوي، يظلّل الطرقات كأمّ حنون، ويُقدّس فيها الإنسان الخضرة كما يُقدّس الروح.
آه، لو أن لصنعاء ظلًّا واحدًا فقط...
تلفّتُّ حولي، فإذا بشجرةٍ يتيمة، ملتصقة بسور مستشفى الكويت. هرولتُ إليها كما يهرول التائه نحو طوق النجاة، وجلست تحتها ألتقط بعض الراحة، وأخذت صورةً لهذه اللحظة، ذكرى لشهر مايو، شهر الوحدة اليمنية المغدورة.
بعد الغداء، عدنا إلى الحي، وما إن هممتُ بالنزول من سيارة صديقي أمام البقالة القريبة من منزلي، حتى رأيته...
رجلٌ نحيل، أسمرُ الوجه، ترتسم الكبرياء على ملامحه كالسيف، يتزرُ المقطبَ الأبيضَ ويحييني بابتسامةٍ خجولةٍ، ويدٍ لوّحت لي بتحيةٍ مهذبة.
قال: "حيّاك الله يا قاضي".
وقفتُ أتأمل عينيه، عيونًا كساها الحياء، كأنها تنطق بجوعٍ صامتٍ لا يُقال. شعرتُ، كما لو أن حاستي السادسة نادتني: "هو بحاجة إليك".
دخلتُ البقالة وبجانبي ابني أحمد، سألت عن فاتورة الكهرباء، وفي أثناء ذلك، اقترب مني ذاك الرجل الطيب، وقال بصوتٍ متردد:
"يا قاضي، لو سمحت... أشتي منك خدمة".
أجبته: "ابشر، ولا يهمك".
قال وهو مطأطئ الرأس: "أشتي سلفة ٣٠٠ ريال... أشتري خبز للغداء لعيالي".
تجمدتُ في مكاني، خجلت، ارتبكت... أدخلت يدي إلى جيبي الخارجي، فوجدته خاليًا إلا من قطعة نقدية معدنية من فئة مئة ريال!
أين ذهبت التسعة آلاف التي كانت بجيبي مساء البارحة؟! تذكرت أن زوجتي أخذتها صباحًا للمصروف اليومي، والباقي تبخر مع القات.
ناولته المئة ريال، وقلت: "والله ما بقي معي إلا هذه".
أخذها بخجل وانكسار، ثم ولّى مهرولًا كمن يهرب من وجع العالم.
لم يمهلني لحظة واحدة لأفتش جيوبي الأخرى.
وحين أفقت من صدمتي، أدخلت يدي إلى جيب الكوت الداخلي، فوجدت فيه ورقتين نقديتين بقيمة ألفي ريال!
صحت: "أحمد! وين راح الرجل؟! ألحقه، خذ له هذه!"
أسرع أحمد يبحث في الشارع... لكن دون جدوى.
عاد إليّ وهو يلهث وقال: "يا أباه، دورت بكل الزوايا، اختفى... كأنه تبخر، كأنه فص ملح وذاب".
تأملت الشوارع والأزقة... لا أثر، لا خيال، لا ظلّ له.
سألت أحمد: "تعرفه؟"
قال: "لا، ما أعرفه، ولا أعرف بيته".
قلت له: "أما أنا... فأعرفه وجهًا، لا اسمًا. هو من ابناء حارتنا، نادراً ما أراه، نتبادل السلام والاحترام، لكنه ظلّ غريبًا عن عنوانه، كما ظللتُ غريبًا عن كل أبناء حارتنا... منعزلًا عنهم، في عزلتي الطويلة."
ومنذ تلك اللحظة، ومنذ عصر اليوم... وقلبي يؤجعني، وضميري يؤنبني، وغصّةٌ في صدري تخنقني.
خذلته دون أن أقصد، وخاب ظنّه فيي، وذهبت أنا أجرّ وجعي... وكسرت ظهر طيبٍ لم يطلب شيئًا سوى خبزٍ لعياله.
ليتني أجدك الآن، يا صديقي الطيّب،
لأواسيك،
لأشاركك عشائي،
لأكفكف عنك عرق الجوع،
ولأقول لك:
سامحني...
فأنا موجوع مثلك،
ومنكسر في داخلي كما أنت...
ولكني تأخرت،
وكان تأخري خيانة للرحمة.
من قلب بغداد.. قال اليمن كلمته للتاريخ
شعارات لا يهمها نهر الدم
إيران: بين لغة المذهبية ولغة السياسة!
ظلٌّ هاربٌ من شمس صنعاء.. في حضرة الجوع والندم
لصالح من نهدم المعبد؟
اليمن بين خطابي بن سلمان والعليمي … خلطة ستوكهولم + خارطة طريق