الخميس 28 مارس 2024
الإسماعيليون في اليمن (5)
الساعة 06:57 مساءً
بلال الطيب بلال الطيب

 

بلقيس اليمن الصغرى

 

تُعد الدولة الصليحية من أبرز نجاحات الدعوة الإسماعيلية في المنطقة، أعاد ملوكها الثلاثة - علي الصليحي (المُؤسس)، والمُكرم أحمد (الابن)، وسيدة بنت أحمد (زوجة الابن) - لليمن مجده الحضاري، ودوره الريادي، وأوجدوا نوعًا من تعايش مذهبي، وتجانس سكاني، وصار اليمنيون إلى حدٍ ما سواسية، في ظل دولة قوية سادها العدل، والتسامح، وجاب صيتها الآفاق.

سيدة بنت أحمد الصليحي، ثالث وآخر حكام الدولة الصليحية، والاسم النسوي الأشهر في تاريخ اليمن السياسي، لا تقل عزيمةً عمن سبقوها، كانت بشهادة كثير من المُؤرخين على قدر كبير من الذهنية الصافية، والحنكة القيادية، والدراية السياسية، والهمة الاقتصادية، لا تقطع أمرًا حتى تستشير رجالات دولتها الفاعلين، فاستحقت بجدارة تسمية (بلقيس اليمن الصغرى).

هناك من يقول أنَّ اسمها أروى، وهذا القول - كما تشير أغلب المصادر - غير صحيح، والصحيح ما ذكرناه، أكد ذلك عمارة اليمني، وهو مُؤرخ عاصرها، وأكد ذلك أيضاً المُؤرخ الإسماعيلي إدريس عماد الدين، وغيرهما، استند الأخير إلى نص وصيتها الذي جاء في مُستهله: «هذا ما أوصت به سيدة ابنة أحمد..»، أما الاسم الآخر فهو كما أفاد القاضي إسماعيل الأكوع تسمية حديثة العهد، أوردها الدكتور حسين الهمداني في كتابه (الصليحيون والحركة الفاطمية في اليمن)، ولعله - أي الهمداني - التبس عليه الأمر، وخلط بينها وبين قريبتها أروى بنت علي بن عبدالله الصليحي زوجة منصور بن المفضل بن أبي البركات، وريث الدولة الصليحية كما سيأتي.

كان زوجها المُكرم أحمد قد أوصى قبل وفاته بأمر الدعوة الإسماعيلية من بعده لقريبه الرجل الأقوى سبأ بن أحمد الصليحى، إلا أنَّها - أي سيده - خالفت الوصية، على اعتبار أنَّ ولدها الصغير علي - توفي بعد ذلك بوقت قصير - هو الأحق بخلافة أبيه، انتصر المُستنصر الفاطمي للأخير، وأرسل سجلاً بذلك، جاء فيه: «وأمره أن يقلدك النظر في ما كان أبوك تقلده من الدعوة الهادية والأحكام في سائر اليمن، وسائر الأعمال المُضافة إليه برًا وبحرًا».

ومن يدري؟ ربما أراد الخليفة الفاطمي بتصرفه ذاك أنْ يتولى أمر اليمن حاكم ضعيف؛ كي لا تنفصل عن حكمه، وكي يستمر تدفق الأموال إليه، خاصة إذا ما علمنا أنَّ الأم أغدقت عليه بالكثير من الهدايا، والتزمت بإرسال الزكوات المُقررة، على عكس زوجها الراحل الذي كان ذا نزعة استقلالية، وهكذا تربعت سيدة على عرش الدولة الصليحية، ودخلت التاريخ من أوسع أبوابه.

كانت الملكة سيدة مُهابة مُطاعة، حليمة مِطواعة، جعلت سبأ نائبًا لها، ثم ما لبثت أنْ تزوجته بأمرٍ من المُستنصر الفاطمي، وهو - أي الزواج - لم يكن أكثر من ارتباط صوري، فلم يبت معها الزوج - كما أفاد المُؤرخ عمارة - سوى ليلة واحدة، توجه بعدها إلى حصن أشيح في آنس، وفيه استقر، وكان ومعه عامر بن سليمان الزواحي - أخوها من جهة الأم - فرسا رهان حكمها، ثبتا لها أركان دولتها، وأخضعا الخارجين عليها، باستثناء النجاحيين في تهامة، الذين استعصى أمرهم على الأول، عقروا في معركة الكظائم التالي ذكرها فرسه، وكاد أنْ يلقى على أيديهم مصرعه.

استغل النجاحيون وفاة المُكرم أحمد، وأعادوا إشهار دولتهم بقيادة جياش بن نجاح الذي عاد من الهند إلى زبيد سرًا، وبدأ بتحشييد أنصاره، ثم قام بعد أنْ استتب له الأمر بطرد والي الصليحيين منها، لتدور بينه وبين الأخيرين مُواجهات عديدة، كانت في مُجملها سجالًا، حتى حقق عليهم انتصارًا حاسمًا في منطقة الكظائم ذي الحجة 479هـ، بعد أن استدرجهم بالحيلة إلى ذلك المكان القريب من عاصمة دولته، دانت له بعد ذلك تهامة، واكتفت الملكة سيدة بحكم باقي المناطق.

كان للملكة سيدة توجه في انعاش وضع اليمن اقتصاديًا، اهتمت برعي المواشي، وأوقفت لذات الغرض أراضي كثيرة، كما قامت بتعبيد الطريق من السياني إلى رأس جبل سمارة، وعملت على تشييد عدد من المساجد، والمدارس، والمصحات، ومن أبرز الانجازات التي تحققت في عهدها: إضافة الجناح الشرقي لجامع صنعاء الكبير، وتزيينه من الداخل، وجعله في أبهى حُلة، وبناء المسجد الجامع في جبلة، ومسجد الضربة في يريم، وتجديد بناء جامع الجند، وإيصال الماء إليه من مناطق جبلية بعيدة.

بوفاة سبأ الصليحي 491هـ، ومقتل عامر الزواحي في العام التالي، بدأ عقد الدولة الصليحية ينفرط، خرجت صنعاء عن الطاعة، وحكمتها ثلاث أسر همدانية إسماعيلية، وهي: آل الغشيم، وآل القبيب، وآل اليامي، الأخيرة هي الأشهر، وهي أسرة عريقة ناصرت الصليحيين بادئ الأمر، وكان القاضي عمران اليامي - واليهم على صنعاء - سندهم البارز، ولقي مصرعه وهو يقاتل معهم في معركة الكظائم السابق ذكرها.

بعد مقتل القاضي عمران اليامي، تولى أمر صنعاء حاتم بن الغشيم المغلسي، وهو من استقل بحكم الأخيرة 492هـ، ليخلفه بعد وفاته ولداه عبدالله 502هـ، ثم معد 504هـ، وهذا الأخير قام الهمدانيون بخلعه 510هـ، وجعلوا هشام بن القبيب بدلًا عنه، ثم آل الأمر لحمّاس بن القبيب 527هـ، ولما حضرت الأخير الوفاة 533هـ، جمع أخوته، وأوصاهم أن يبايعوا كبيرهم أبي الغارات، إلا أنَّهم اختلفوا، فآل الأمر لآل اليامي، بزعامة حاتم بن أحمد بن عمران اليامي، الاسم الأكثر حضورًا في الحلقة التالية.

بعد انفصال المناطق الغربية، ثم المناطق الشمالية عن الدولة الصليحية، قبلت الملكة سيدة بالأمر الواقع، واكتفت بحكم المناطق الوسطى والجنوبية، وأسندت مهام الدفاع عنها وعن دولتها إلى المُفضل بن أبى البركات، من عاش في كنفها صغيرًا، ليصبح هذا القائد مع مرور الوقت رجل الدولة ومدبرها، والمرجوع إلى رأيه وسيفه، فعظم بذلك - كما أفاد المُؤرخ عمارة - شأنه، وعلت كلمته، ولم يبق في اليمن من يساويه ولا من يساميه.

ينتمى المُفضل إلى أسرة أبي البركات، وهي أسرة حميرية عريقة كانت تقطن مخلاف جعفر، اعتنقت المذهب الإسماعيلي، وكان لها دورًا في تثبيت دعائم سلطات الدولة الصليحية في مناطق نفوذها، وتوارثت حكم تعز والتعكر، وعلى النقيض منها كنت أسرة بني زريع في عدن، حاول الأخيرون الخروج عن طاعة الملكة سيدة، إلا أنَّ الأخيرة ومن خلفها المفضل وابن عمه أسعد بن أبي الفتوح كانوا لهم بالمرصاد.

وبنو زريع هؤلاء: همدانيون، ياميون، إسماعيليون، حكموا عدن لأكثر من مئة عام، مُعظم تلك المدة كانت باسم الصليحيين، كان خروجهم الأول على الأخيرين بعد وفاة سبأ الصليحي، فسار إليهم المُفضل بن أبي البركات، أخضعهم، وألزمهم بدفع ما عليهم من واجبات، بعد أن تم تخفيضها إلى النصف، عاودوا تمردهم بعد وفاة الأخير 504هـ، فسار إليهم هذه المرة أسعد بن أبي الفتوح، أخضعهم، وألزمهم بدفع ما عليهم من واجبات، بعد أنْ تم تخفيضها إلى الربع.

وكما كان التمرد الزريعي على ثلاثة مراحل، كان انهيار دولة الملكة سيدة على ثلاثة مراحل أيضاً، تجسدت عناوينه العريضة بوفاة سبأ، ثم المُفضل، ثم مقتل أسعد 514هـ، اضطرت الملكة الصليحية بعد ذلك أن تطلب المساعدة من الخليفة الفاطمي الآمر بأحكام الله، فأرسل لها بعلي بن إبراهيم بن نجيب الدولة، إلا أنَّ الأخير حاول أن يستبد بالأمر من دونها، هزمه الزريعيون في دمنة خدير 519هـ، وتحقق في عهده انفصال عدن وباقي المناطق الجنوبية.

كانت سيطرة بني زريع الكاملة على المناطق الجنوبية قد تحققت قبل تلك المعركة بثماني سنوات، وذلك بدخولهم أبين وأحور، وأخذهما من بني معن، والأخيرون: قوم من الأصابح حكموا مُعظم مناطق اليمن الجنوبية حتى حضرموت، وذلك بعد وفاة الحسين بن سلامة 403هـ، واستمرت دولتهم - وبمعنى أصح حكمهم - لأكثر من مئة عام، وتعاقب على قيادتهم عدد من السلاطين، كان مسعود بن زريع بن العباس بن معن - توفي سنة 511هـ - آخرهم.

جعل بنو زريع من مدينة عدن عاصمة لدولتهم، لتشهد الأخيرة في ظل حكمهم انتعاشاً اقتصاديًا كبيرًا، قاموا بتسويرها، وشيدوا فيها عدد من المعالم، وحين انفصلت الملكة سيدة بعد مقتل الآمر بأحكام الله عن الدولة الفاطمية 524هـ، وتبنت الدعوة الطيبية التي تم التنكيل بها حينها من قبل الدعوة الحافظية، نسبة إلى الحافظ الفاطمي (الخليفة الجديد)، تواصل بنو زريع مع الأخيرين، وتولوا حكم المناطق الجنوبية باسمهم، حتى جاء الأيوبيون وقضوا عليهم جميعًا.

وهكذا، وأمام حضور الإسماعيلية الطاغي، اختفى دعاة الإمامة الزّيدِيّة، وانكفأ أنصارها على أنفسهم، حتى أنَّ دولتهم في طبرستان كانت قريبة من ذات المصير، ليجدد حضورها من بلاد جيلان الإمام المُؤيد أبو طالب الأخير يحيى بن أحمد 502هـ، أرسل الأخير بعد مرور تسع سنوات بدعوته إلى اليمن، فتلقفها الأمير الهادوي المحسن بن الحسن، أجابت الأخير قبائل صعدة والجوفين ونجران، إلا أنَّ تلك التبعية لم تغير في خريطة الإمامة شيئًا؛ بل كشفت مدى الضعف الذي وصل إليه إماميو اليمن خلال تلك الحقبة.

أعلن المحسن بعد ذلك نفسه إمامًا، وتلقب بـ (المعيد لدين الله)، ولم يصلنا من تفاصيل حياته الغامضة إلا النزر اليسير، وقيل أنَّه حارب الصليحيين من قبل، وقتل في ثلا قائدهم عامر الزواحي - قاتل الإمام حمزة بن أبي هاشم - وهي الحادثة التي خلَّدها أحد شعراء الزّيدِيّة بقوله:

إنَّا قتـلنا عـامــرًا وابــنـه

يحيـى وكانا ملكي حميــر

لله در محسن من طاعن

والخيل بين عجاجة وستور

كانت نهاية المحسن - هو الآخر - مَقتولًا على يد ثلة من سكان حقل صعدة، قتلوه وولده، وجماعة من أصحابه، وأحرقوا جثمانه، واستصبحوا بشحمه؛ انتقامـًا لقتله ضيفًا لهم قيل أنَّه إسماعيلي المذهب، استنهضت ابنته قبائل خولان الشام للأخذ بالثأر، ومن بلاد جيلان جاءها المدد بقيادة الأمير الهادوي حسين بن عبدالله، فيما قاد الشيخ محمد بن عليان الخولاني تلك المجاميع صوب مدينة صعدة، نهبها وأصحابه، وبالغ في خرابها، وجعلها خاوية على عروشها.

وبالعودة إلى أخبار الملكة سيدة، فإنَّها بعد رحيل ابن نجيب الدولة وقع اختيارها على قريبها علي بن عبدالله الصليحي للدفاع عنها وعن دولتها، إلا أنَّ الأخير لم يستطع منع الوضع من الانهيار، كثرت التمردات، وسقطت معظم المناطق تباعًا بأيدي بعض الزعامات، لتتحقق نهاية تلك الدولة العريقة بوفاة ملكتها العظيمة 1 شعبان 532هـ / 13 إبريل 1138م، عن 92 عامًا، وبعد حكم دام لأكثر من نصف قرن، وقد رثاها عدد من الشعراء، منهم القاضي حسين اليامي الذي قال في إحدى قصائده:

خلا القصرُ في ذي جبلة من مكارمٍ

يحنُّ إليها بائسٌ وفقير

بعد تلك النهاية الأليمة، لم يتبق من خريطة الدولة الصليحية التي شملت الجغرافيا اليمنية حتى مكة المكرمة سوى 28 حصنًا ومدينة، منها حصن التعكر، ومدينتي إب وجبلة، ورثها منصور بن المُفضل بن أبي البركات، إلا أنَّه وبعد أن تقدمت به السن، ورأى عجزه عن حمايتها؛ باعها بـ 100,000 دينار لبني زريع 547هـ، آثر بعد ذلك في حصن تعز البقاء، وبعد أربعة أعوام كانت وفاته.

الأيام دول، ومصير الدول دومًا إلى زوال، سنن كونية ثابتة، ولكل شيء سببًا؛ بل أسبابًا، ويبقى السؤال: هل كانت الملكة سيدة من أسباب انهيار الدولة الصليحية؟ هذا ما سنؤجل الإجابة عليه إلى موضوع مُستقل.

.. يتبع


إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
آخر الأخبار