الخميس 25 ابريل 2024
التراث اليمني.. سياسات التدمير ومبادرات الحماية
الساعة 11:28 مساءً
ياسر هاشم الهياجي ياسر هاشم الهياجي

يومًا بعد يوم تؤكدُ المملكةُ العربية السعودية دورَها الريادي في دعم اليمن في مختلف الظروف والمجالات، وتوطيدِ عُرى التعاون وفقًا للقواسم المشتركة التي يعتلي سنامَها وحدةُ الدين، وأواصرُ الجوار، والأخوة الموغلة في التاريخ. وما اتفاقية التعاون التي وقعها البرنامج السعودي لتنمية وإعمار اليمن ووزارة الثقافة السعودية استجابة لطلب الحكومة اليمنية؛ بهدف الحفاظ على التراث الثقافي في اليمن إلّا تأكيد جديد للدور المحوري الذي تقوم به المملكة تنمويًا تجاه اليمن منذ عقود.

كنتُ قد كتبتُ -قبل عامين تقريبًا- مقالًا في جريدة الرياض بعنوان "أنقذوا تراث اليمن" شخصتُ فيه بعض ما يتعرضُ له التراث الثقافي الممتد عبر آلاف السنين من تدميرٍ، ومخاطر جمّة تنذر بفقدان الهوية الوطنية، والإحاطة بالواقع المرير الذي يتعرض له، وما يشهده من تغيرات جذرية في كينونته التاريخية والعمرانية وملامحه الجمالية، ودعوتُ فيه إلى ضرورة قيام المجتمع الدولي بواجباته ومسؤولياته تجاه الأخطار المحدقة التي يتعرض لها تراثنا، وإعادة ما تمَّ نهبُه من الممتلكات الثقافية التي لا تُقدّر بثمن.

ولأنَّ المجتمع الدولي لا يهمه أمر تراثنا، فقد اكتفى بالشجب والتنديد، فهو ينتظرُ المزيد من الخراب لكي يتحرك، وربما لن يتحرك إلَّا بعد أنْ يصبحَ تراثُ اليمن مجردَ كومة أحجار وغبار، فالمنظمات الدولية المسؤولة على حماية تراث الإنسانية لا تزال تمارسُ الشجب الخجول؛ ذلك أنَّ تراثنا العربي -بشكلٍ عام- لا يهمها في الأصل، فهو يقع خارج الاهتمامات الإستراتيجية لهذه المنظمات، وبالتالي فهي غير معنية به، وإلَّا كيف يُفسرُ هذا الصمت الذي يبعث على القلقِ أمامَ جزءٍ مُهمٍ من التراث الإنساني الذي يتبخر، ويتحول إلى غبار وكأنه لم يكن، كيف سيكون وجه العالم لو حدث هذا التخريب في الدول المتقدمة، أو تلك التي تمسكُ بزمام المؤسسات الدولية المعنية؟ لنا أنْ نتخيلَ -ولو ثانيةً واحدةً فقط- الأثرَ المُفْجعَ الذي سيخلفه تحطيم كنيسة في لندن، أو فيلاّ كازالي في إيطاليا، أو مَتْحَف ريكز في أمستردام، أو مدينة لوبيك الألمانية، أو لوحة الموناليزا في متحف اللوفر، أو أيّ موقع في الجزء المتقدم والمهيمن حضاريًا من هذه المعمورة؟ بلا شكٍّ ستقومُ الدنيا ولن تقعد، وسيدخل العالم في حدادٍ بلا نهاية. وهذا هو الطبيعي أمام وضعٍ كهذا. في حين يُدمَر تراثنا وتُنهب ممتلكاتنا أمامَ صمتٍ جبانٍ للضمير العالمي؛ مما يُوحي بأنَّهم يريدون عزلنا وتفقيرنا ثقافيًا وتحويلنا إلى كيانٍ ضائعٍ بلا حياة ولا تاريخ، فلا تجدُ الأجيال القادمة شيئًا ترتكز عليه إلّا أرضًا قاحلةً وقاتلةً أيضًا، لا تثمر في النهاية إلا الخوفَ والجوعَ والقتالَ على بقايا أرض ممزقة.

الشَّجْبُ لا يكفي، والتنديدُ ليس حَلًا، ونداءات الاستغاثة الضعيفة لن تُعيد لليمن تراثه. المؤسسات الدولية بإمكانها أنْ تفعل شيئًا قبل فوات الأوان، ولدى المجتمع الدولي وسائل عديدة لحماية المنجزات الإنسانية التاريخية في اليمن التي لن تتكرر، قبل أنْ تتحول إلى مجرد صور نتذكرها بحسرة كبيرة، فقد طال الخراب والعبث كثيرًا من المواقع -في ظل غياب الدولة وما تعيشه اليمن من فوضى بعد 2014- على مرأى أعين العالم، وطال هذا التغول والعبث المتاحف التي تحوي كنوزًا إنسانيةً ضخمة، وأصبحت المواقع التراثية اليوم بحاجة إلى من يحمي ما تبقى واقفًا وحيًا منها. والسؤال الذي يفرض نفسه: ما الوسائل الممكنة اليوم لإيقاف هذا التدمير للميراث الإنساني الذي يصنع الذاكرة اليمنية والإنسانية؟ وما السبلُ الضروريةُ لتأمين الحماية الفعلية له؟ والتدابيرُ التي تؤدي إلى منعِ الاتّجارِ به، وإعادة الممتلكات المنهوبة إلى البلد؟ وما الإستراتيجيات الممكنة لتجنيب التراث الاعتداء والتدمير وحمايته وإعادة تأهيله؟

وكمهتمين ومتخصصين، كُنَّا قد وضعنا أيدينا على خدودنا من العجز؛ جراء ما نشاهده من ميراث إنساني يُبادُ أمام أعيننا، ويضيعُ من بين أيدينا، وكنقطة ضوء في سماء ملبدةٍ بالسواد الحالك، شهدنا الأسبوع الماضي توقيع اتفاقية تعاون بين البرنامج السعودي لتنمية وإعمار اليمن ووزارة الثقافة السعودية، استجابةً لطلب الحكومة اليمنية؛ بهدفِ الحفاظ على التراث الثقافي في اليمن، والتي تكتسبُ أهميتها بالنظر إلى ما يشهده التراث اليمني المُميز من اعتداءات جسيمةٍ، وانتهاكات صارخة، ألحقتِ به أضرارًا على نحوٍ بالغ؛ نتيجة الممارسات غير القانونية التي تُرتكب بحقّه، وأدّت إلى تغيير معالم هذا التراث، وإضعاف قيمته الثَقَافِيّة والتاريخية، وضياع قيمته العالمية الاستثنائية.

ومن يُدرك حجم المأساة التي يُعاني منها تراثنا سيجدُ نفسَه مندفعًا للتعاطي مع أي مبادرة تُخففُ بعضَ أوجاعنا، وهو ما نأملُه من هذه المبادرة وغيرها من المبادرات، فلدى برنامج إعادة إعمار اليمن ووزارة الثقافة السعودية قدرات وإمكانيات حقيقية لإنقاذ ما يمكن إنقاذُه من تراث اليمن الثمين الذي يتعرض اليوم للنهب والدَّمار والمتاجرة، ولاسيما أنه قد سبق توقيع مذكرات مشابهة مع دارة الملك عبدالعزيز، ومركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية للحفاظ على التراث اليمني، ونبارُك كلَّ الجهود والمبادرات التي تصبُّ في مصلحة حفظِ تُراثنا وحمايته. وبالمقابل تحتاجُ المؤسسات الثقافية داخل اليمن –أيضًا- استدعاءَ كلّ جهودها وقوانينها وخبراتها، وقبل هذا إخلاصها بما يمليه عليها واجبها التاريخي؛ لجعل حماية التراث قضيةَ وجود وليست عملًا إضافيًا للاستهلاك الإعلامي، بل والقيمة الكبرى التي ترتكز عليها مجمل القضايا الراهنة والمستقبلية.

وهذه بعض المقترحات التي ينبغي التفكير جِدّيًا بها لحماية التراث الثقافي وصيانته:

  • تأسيس صندوق خاص تُسهم فيه البلدان الشقيقة والصديقة والمنظمات المعنية بحماية التراث (اليونسكو، الايكوموس، الآيكام، الأيكروم، الايسيسكو، الإليكسو، منظمة المدن العربية، منظمة العواصم والمدن الإسلامية)؛ يهدف إلى حماية وصون التراث الثقافي في اليمن، وإعادة بناء وترميم المباني والمدن التي دمرتها الحرب.
  • إعداد قوائم بالقطع الأثرية والفنية المسروقة والمخطوطات المنهوبة، والتواصل مع جميع البلدان والمنظمات الدولية المعنية بغرض استعادتها.
  • تشكيل لجان وطنية متخصصة في مختلف مجالات التراث الثقافي المادي وغير المادي، تعمل بشكلٍ متكاملٍ؛ بهدف حصر وتقييم الأضرار وحماية التراث وصونه وتطويره وترتيب الأولويات.
  • إجراء التقييمات الأولية لحجم الأضرار باستخدام التقنيات المختلفة، وتقييم كل العوامل الكامنة التي قد تزيد من قابلية التراث للضرر؛ من أجل معالجتها بشكلٍ عاجل.
  • التعاون والتنسيق مع كافة القطاعات والهيئات والسكان المحليين.
  • إشراك الشباب بدرجة أساسية وفق شراكة حقيقية وفاعلة في مشاريع الحفاظ والحماية، وفي مختلف البرامج الثقافية.
  • أن تركز المشروعات على المشاورات التشاركية مع المواطنين، وتعزيز الشبكات المحلية القائمة على المجتمعات ومنظمات المجتمع المدني.
  • تحديد المشكلات والمعوقات والقضايا المُلحة التي تواجه التراث، وتحديد الفرص المتاحة وتحليلها، وتأسيس قاعدة معلومات شاملة للتراث الثقافي.
  • تحديد البدائل التخطيطية، ووضع خطة شاملة للحفاظ والتطوير، وتحديد وسائل وأساليب التنفيذ، واستخدام التكنولوجيا البديلة الممكنة.
  • تفعيل حضور اليمن في المنظمات الدولية المعنية، وتعزيز دور سفير اليمن لدى اليونسكو، ووضع أولويات لعمله، وتزويده بالإمكانيات اللازمة للقيام بدوره المحوري.

تراثنا هويتنا وحضارتنا وواجبنا يحتم علينا بذل كل الجهود من أجل حمايته والقيام بمسؤولياتنا تجاهه، فلا يكفي التضامن مع التراث، بل أن نكون مسؤولين عنه.


آخر الأخبار