الثلاثاء 16 ابريل 2024
عن رجل ظل يسبق الجميع ولا يتعب
الساعة 10:33 صباحاً
وسام محمد وسام محمد

في الأيام الأولى، التي تعقب حدوث جريمة اغتيال، لا يكون ثمة طريقة للعزاء والشعور بالمواساة، بالنسبة لمن هزهم هول الجريمة، غير استدعاء الاحداث والمواقف الاستثنائية المرتبطة بالشخص الذي ارتكبت الجريمة بحقه. وهذا ما حدث معي عندما كنت أتحدث مع أحد الأصدقاء عن الجريمة التي هزت أعماق كل من عرف أو سمع عن الأستاذ ضياء الحق الاهدل. وكنا بطبيعة الحال نستدعي مواقفه وادواره الاستثنائية على الصعيد السياسي والإنساني.

سيخبرني ذلك الصديق انه صادف وكان الى جوار الأستاذ ضياء، عندما تناهى اليهم خبر مقتل حميد القشيبي وسقوط اللواء 310 في عمران خلال العام 2014. قال: لم أرى الأستاذ من قبل وهو يبكي وكان يبكي بحرقة شديدة. لكنه في اليوم الثاني مارس حياته بشكل طبيعي.

سيتوقف صديقي عند كيف انه كان رجلا لا يمكن ان يشعر بالإحباط والتعب أيا كان الواقع الذي يواجهه او يحيط به. يتألم وقد يبكي كما حدث ليلتها لكنه لن يتوقف عن العمل بنفس الروح المتفائلة التي ظل يحملها حتى آخر لحظة من حياته.

بالنسبة لي كان شيئا آخر هو الذي أستوقفني: ردة الفعل تلك على خبر استشهاد القشيبي ومدى تأثره بالخبر، ثم ما ترتب عليها من استعداد ومبادرة لمقاومة المشروع الحوثي. سوف تقدم لي لمحة عن ذلك الحس السياسي الذكي الذي جعل من ضياء الحق دائما في قلب الأحداث وسباقا للقيام بواجبه ازائها.

كثيرون ربما ادركوا خطورة استشهاد القشيبي وسقوط لوائه، وكيف ان ذلك مثل بداية لسقوط البلد واجتياح عاصمتها، لكن قلة فقط هم من استعدوا لمواجهة الجائحة الحوثية وكان الأستاذ ضياء أحدهم بل في مقدمتهم. فقد كان دوره في بداية تفجر المقاومة في تعز مشهودا وتاريخيا.

يعيدني هذا الى الأيام التي سبقت اندلاع ثورة فبراير في شوراع مدينة تعز. ذات مساء جمعتني بالأستاذ ضياء طاولة أمام الاستراحة الواقعة بجوار مقر الحزب الاشتراكي في حي الغرفة التجارية وكان حديثا طويلا وذو شجون.

كنا نتحدث عن إمكانية اندلاع ثورة شعبية في اليمن وما الذي يمكن عمله. ثم وجدته يعود بي الى الماضي، الى ستينيات القرن العشرين، يحدثني عن عبدالقادر سعيد (احد مؤسسي التيار اليساري في اليمن) وعبده محمد المخلافي (أحد مؤسسي التيار الاخواني في اليمن) وكيف كانت علاقتهم ببعض قائمة على الود والحوار. لتصبح هذه العلاقة بمثابة الجذور الحقيقية التي استلهمها الشهيد جار الله عمر وقيادات الأحزاب الأخرى عند تأسيس اللقاء المشترك في مطلع الالفية.

سوف استخلص من ذلك الحديث، ان ما تأسس على ايدي رجالات الحركة الوطنية يجب أن يستمر ويتجذر، وأنه علينا ان نعي أهمية ذلك الان وخلال الأيام القادمة. أو أن هذا هو الذي كان يعنيه الأستاذ ضياء وقد أصبح يستشعر الثورة وهي تلوح في الأفق ويستشعر متطلبات انتصارها.

خلال الأيام الأولى لثورة فبراير التي بدأت مساء 11 فبراير من شارع جمال، كان الأستاذ ضياء هو القيادي الإصلاحي الوحيد الذي أعرفه ويتواجد بكثافة في أحداثها وبين شبابها. لم يكن يتميز فقط بروح المبادرة، ولكن قربه من الشباب واستشعاره لما يجيش في صدورهم جعله قادرا على تحديد الدور الاستثنائي الذي سيلعبه خلال تلك الأوقات العصيبة عندما كنا نكتب الكلمات الأولى لأعظم قصة في تاريخ اليمن الحديث لكننا في نفس الوقت مجردين من كل شيء ولا نمتلك غير الشجاعة والإصرار.

كان دور الأستاذ ضياء مؤازر ومبهج للشباب الذين أخذوا يلتفون حوله بالرغم من شعارهم الأكثر ترديدا "لا حزبية ولا أحزاب" وبالرغم من معرفة كثيرين بانتمائه السياسي.

لا أعرف كيف أفسر ذلك. ولكني هنا سأذكر موقفا حدث معي شخصيا. ففي يوم 13 فبراير عندما كنا في طريقنا لنقل الاعتصام من شارع التحرير الى ساحة صافر (ما سيعرف لاحقا بساحة الحرية)، تفاجأنا بأطقم عسكرية تخرج من الشوارع الفرعية المؤدية الى شارع التحرير الأسفل ليقفز الجنود منها وينهالوا علينا بالضرب. حصلت على نصيبي من الضرب بالهراوات واعقاب البنادق وتم اعتقالي مع ثلاثة شباب اخرين. وايداعي سجن إدارة أمن القاهرة القريب من الساحة ثم الافراج عنا بعد توقيعنا مع على تعهد لا اعرف حتى اليوم ما لذي كتب فيه.

في مساء ذلك اليوم، وجدت نفسي لم أعد قادرا على المشي إلا بصعوبة. وذلك بسبب تعرضي لضربات أسفل العمود. وكان هناك برعما قد نمى في جبهتي جراء اصطدامي بحاجز حديدي كان يتوسط الطقم العسكري الذي تم القائي الى داخله بقوة.

بالطبع لم أكن مهتما بما حدث لي. ولم يهتم أيا من الأصدقاء أو الرفاق. كان المهم في ذلك الوقت اننا نجحنا في تأسيس الساحة وان الناس بدأت تتوافد اليها. لكن في ظهيرة اليوم الثاني وجدت الأستاذ ضياء يطالبني بالذهاب معه الى احد الأطباء لكي نجري فحوصات أولية. اخبرته ان الامر لا يستدعي. لكنه أصر. دائما كان لديه الحس الإنساني الفريد والوقت الكافي للقيام بذلك.

أتصل بالطبيب وكان في منزله واخبره اننا قادمون اليه. وفي المنزل قام الطبيب بمعاينة مكان الإصابة ثم صرف لي الادوية مجانا، وطلب مني زيارته في عيادته اذا مر أسبوع ولم أتحسن. ثم تناولنا وجبة الغداء في منزله وعدنا الى الساحة.

في وقت لاحق سأكتشف ان ما حدث معي قد حدث مع معظم الشباب. هناك من حصل على كاميرا مصدرها الأستاذ ضياء لكي يقوم بتوثيق يوميات الثورة، وهناك من حصل على مكبر صوت. كان يسند الجميع بأكثر من طريقة وبغض النظر عن انتمائهم السياسي.

لهذا بعد مرور أسبوع كامل من الخروج الى الشوارع وتأسيس ساحة الحرية، عندما حان موعد أول خطبة جمعة في أول ساحة للثورة، كان من الطبيعي ان يكون الأستاذ ضياء هو من سيعتلي المنصة وسيقدمها. لقد توافق الجميع على ذلك دون نقاش.

ستتوالى الاحداث وسيظل الأستاذ ضياء مبادرا وسباقا لعمل ما يستطيع عمله في سبيل ما يؤمن به ايا كانت الظروف والتعقيدات المحيطة. وكان ايمانه الإنساني عميقا ومتجاوزا لكل انتماء. كما هي تقديراته السياسية الدقيقة والمقرونة بروح المبادرة. وما دعوته المبكرة الى توحد الجهود وتضافرها قبل يوم من اغتياله لأن هناك عدوا لا يفرق بين أحد يتربص بتعز. إلا تتويجا لمسيرة حافلة بالسبق وعدم اليأس.

بكلمة: لقد خسرنا رجلا، ظل يسبقنا جميعا، وما كان يجدر به ان يسبقنا الى الموت في توقيت صعب كهذا.


إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
آخر الأخبار