آخر الأخبار


الاثنين 17 مارس 2025
الضجيج الذي أحدثه الكوفيون حول حياة علي بن أبي طالب لم يجعلها أكثر إشراقاً، بل أثار نحوها الشكوك. وهو على قيد الحياة كانت جماعة احترافية من أصحابه قد دشنت مشروع خلق الأسطورة [1]. لنأخذ مثلاً حبّة العرني، وكان من أصحاب عليّ القريبين. روى العرني عن علي، قال: بُعث رسول الله يوم الاثنين، وأسلمت يوم الثلاثاء [2] . هذا الرجل، من أصحاب علي، لخّصه ابن الجوزي في جملة قاتلة: حبّة لا يُساوي حبّة [3] . كان حبّة العرني مجرد فرد صغير في منظومة برزت أول الأمر في حياة علي وتحت سلطته، واستمرت في التاريخ.
عاش رجلاً عادياً، لا طالباً ولا مطلوباً، كما يتخيله الحاجظ في كتاب العثمانية. في صحيح مسلم نعثر على رجل من عامة الناس، يضربه الجوع فيذهب للمطالبة بميراث زوجته، يصارع عمه العباس فيشتمه العمّ مستنصراً الخليفة "اقض بيني وبين هذا الكاذب، الآثم، الغادر، الخائن". يحدث ذلك بحضور حشد من الصحابة بينهم ابن عوف والزبير وسعد، ويستمعون لكل ذلك السباب فيطلبون من عُمر أن ينهي المسألة. ينهر عمرٌ علياً، مذكراً إياه بما سبق وأثاره حين جاء إلى أبي بكر حاملاً نفس المطالب، وكانت فاطمة قد توفيت بعد رسول الله بنصف عام. نهر عمر الرجلين المتخاصمين، قال "جئتما تطلب ميراثك من ابن أخيك، ويطلب هذا ميراث امرأته من أبيها، فقال أبو بكر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما نورث، ما تركناه صدقة ـ فرأيتماه كاذبًا آثمًا غادرًا خائنًا، والله يعلم إنه لصادق بار راشد تابع للحق"[4].
يستغل عمر الحدث، بما إن أحد الرجلين قد اتهم الآخر بالخيانة والكذب، مذكراً إياهما "رأيتماني كاذبًا آثمًا غادرًا خائنًا، والله يعلم إني لصادق بار راشد تابع للحق".
سنأتي على موقف شُرّاح صحيح مُسلم، ومحاولتهم تفريغ لغة العباس من معانيها كي لا يقعوا في المحظور، فابن حجر سيختار كلماته بعناية قائلاً إن العباس ربما كان "يدلل" عليّا ولا يتهمه. الحقيقة أن تعليق عُمر حول الحادثة لا يترك لكلمات ابن حجر من معنى. أبعد من ذلك، يشير عُمر هُنا إلى ما قاله عليٌ بحقه وحق سلفه حين وصفهما بالكذابين والغدارين والخونة. كان واضحاً أن عليّاً، في سبيل نيل ما يعتقد أنه حقه، ذهب يتهم رجلين من كبار المسلمين بالخيانة والغدر. لم يكن أبو بكر وعمر خليفتين وحسب، بل كان الناس يأخذون عنهما الدين أيضاً.
علينا أن نلتفت هُنا لأمر واسع الأهمية: حضور الزبير تلك الواقعة، حيث ينهي عُمر تقريعه للرجلين من بني هاشم متحديّاً "فإن عجزتما عنها فرُدّاها إليّ". فيما بعد سيرفض الزبير خلافة علي، وسيذهب لقتاله، وسيقتله رجال علي. والزبير ذاك هو زوج أسماء بنت أبي بكر، المرأة التي جهزت مؤنة النبي ساعة هجرته، وشقت نطاقها وربطت به سفرة النبي وصاحبه. ابن عوف أيضاً كان حاضراً. ومستقبلاً سيفضّل عثمان للخلافة على حساب علي. سنأتي على هذه المسألة أدناه. يعرف الرجلان، الزبير وابن عوف، الكثير عن حياة علي، وما الحادثة التي يرويها مسلم في صحيحه سوى لحظة واحدة داخل حياة من عشرات السنين، نادراً ما ألقي عليها الضوء.
لنقفز إلى الضفة الأخرى، إلى "وسائل الشيعة" للحر العاملي ( ت. ١٦٩٢م ) لنرى جانباً من عاديات علي بن أبي طالب، من يومياته. في باب نكاح الجواري والعبيد يورد هذا النص: كان أبو الحسن عليه السلام -يقصد علياً- ينام بين جاريتين ويكره ذلك مع الحرائر، وإن كان لا بأس به [5]. نوم أبي الحسن مع جاريتين في الوقت نفسه هو أمر استفاض فيه محمد العاملي، من علماء القرن الحادي عشر ميلادي، في نهاية المرام. كما عززه بمرويات عن جعفر الصادق، حفيد أبي الحسن، مثل أنه كان لا يرى بأساً في أن يطأ الأمة وفي البيت غيره يراه [6]. محمد العاملي عالم شيعي مبجل، هو صاحب المدارك، ويعرف معنى ما يكتبه، خصوصاً وهو يكتب نهاية المرام في القرن العاشر الميلادي. إن التنقل بين الضفتين، السنّية والشيعية، للبحث في حياة الرجل أمر مهم، فقد تجد في البحر ما لا تجد في النهر، ولنضع الصورة في إطارها المناسب حتى لا يذهب كلامنا في طريق المجابهات الطائفية.
نريد هُنا فقط أن نلقي صورة على الحياة العادية لعلي بن أبي طالب. من ذلك ما ذكره ابن كثير في البداية والنهاية أن عليّاً تزوّج ابنة امرئ القيس بن عدي، من بني كلب. أنجبت له طفلة، وكان يأخذها إلى المسجد ويقدمها إلى المصلّين ليضحكوا معاً على هذا الأمر: يسألونها من أخوالك فتقول وه وه وه (تقلّد نباح الكلب، تشير إلى أخوالها من بني كلب [7]. كان عليّ يعلم ابنته أن تتحدث عن أخوالها بتلك الطريقة أمام الناس، وتضحكهم. سبق لنا أن تتبعنا سيرة طفل آخر تربى في معيته، كان اسمه محمد بن أبي بكر، وحين بلغ الخامسة والعشرين اقتحم بيت الخليفة وطعنه في حلقه وفقاً لعدد كبير من النصوص التاريخية، وسيصفه ابن تيمية في منهاج السنة قائلاً: كان رجلاً بلا فضيلة.
اختفى علي في المدينة لربع قرن، بين موت النبي ومعركة الجمل. إذا حملنا كاميرا وتقصينا أثره فلن نجد شيئاً مما يمنح الرجل منزلة "باب مدينة العلم". إن اختلافه مع أبي بكر ثم عُمر حول ميراث زوجته، وكان يجرّ معه العبّاس ليطالب بمال النبي، يجعلنا نتساءل عن الحرفة التي عمل بها عليّ، عن الصنعة التي كسب من خلالها رزقه. كان يتعالى على عمل اليد، ولم تكن له من حرفة. ضربه الجوع ذات مرّة فراح إلى يهودي ليعطيه عملاً، فطلب منه أن يسقي شجراته وسيحصل لقاء كل نضحة، سطل من الماء، على تمرة [8] . كان رجلاً عاديّاً، يحصل على هذه الأعمال المتواضعة فلم يكن يحترف شيئاً بعينه، وأيضاً لأنه لم يكن ثقيل الشأن داخل مجتمعه. لننظر إلى رجل يقف إلى جوار علي، اسمه عبد الرحمن بن عوف، ولنرَ ما الذي كان يصنعه. كان عبد الرحمن بن عوف مهاجراً، وحين قال له سعد بن الربيع هلمّ أقاسمك مالي قال ابن عوف دلوني على السوق "فما رجع يومئذ إلا ومعه شيء من أقط وسمن" [9] . الطريق نفسه سيسلكه عثمان، وسيذهب بعيداً في السوق حتى يصبح رجلاً ارستقراطياً واسع الثرو، وسيتولى العبء الأكبر في تجهيز أول جيش إمبراطوري للإسلام عشية تبوك. كان عليّ أصغر من الرجلين، شاباً فتيّاً، غير أنه لم يعرف الطريق إلى أي حرفة تدرّ عليه رزقاً.
كان عليّ في المدينة لا يفعل شيئاً، لا يتقن حرفة، ولا يساعد زوجته وهي تشتكي له "لقد طحنتُ حتى مجلت يداي"، فينصحها بأن تشتكي لوالدها لعله يعطيها "خادما"، كما في رواية الشيخين، أو جارية، كما في مسند أحمد. رفض النبي الاستجابة لطلبها ونصحها بذكر الله، ومن المؤسف أننا لا نجد ما يكفي من الآثار والنصوص لنرى الصورة كما يجب، لنقرأ انفعالات النبي وهو يرى البؤس الذي تعيشه ابنته، وما إذا كان قد عاتب زوجها الشاب الذي لا يكسب ديناراً ولا درهماً، ويتعالى على أعمال الناس وصنائعهم.
حين قتل عُمر، الخليفة الثاني، وجاء الدور على ابن عوف، رئيس اللجنة المعنية باختيار الخليفة، وضع يده في يد عثمان، الرجل الذي يعمل ويكد ويكسب المال ويعرف الممكن والمستحيل وبمقدوره أن يفهم مشاكل شعبه. لم يفكّر باختيار علي، لا ينبغي أن تذهب الرئاسة إلى رجل لا يعرف السوق، لا يتقن حرفة، أي لا يفهم حياة الناس في حقيقتها. لنأخذ هذه الفكرة بعيداً ونذهب إلى "ساعة العسرة" التي أشارنا إليها سابقاً، وهي لحظة عصيبة في التاريخ الإسلامي قرر فيها النبي مواجهة الروم في تبوك سنة تسعة للهجرة.حدث الزحف في الصيف. وكانت الدولة العربية الجديدة قد أخذت مكانها وبرزت ملامحها بعد دخول النبي واليمنيين والقبائل إلى مكة، العاصمة الثقافية لقبائل الجزيرة العربية. حدث أول اشتباك بين العرب المسلمين والروم من خلال اعتراض طريق الرسل، واهتمام الروم بتأسيس حائط صد من قبائل الشمال للحيولة دون تحول الدولة العربية إلى إمبراطورية. برزت العُسرة عندما لاحظ النبي أن مالية الدولة غير كافية لدعم الجيش لوجستيا فطلب من شعبه مساعدة الدولة. تقدم عثمان بن عفان بثلاثمائة بعير وآلاف الدينارات، كما في صحيح البخاري. سارع أثرياء العرب المسلمون وألقوا أموالهم في المعركة. الساعات تلك، والعرب يجهّزون بمشقة بالغة جيشاً ذا ملمح إمبراطوري لأول مرّة، كانت جليلةً سردها القرآن لتبقى عابرة للزمان وعامرة بالدلالة. يروي البيهقي، في حديث صحّحه الألباني، عن رجل لم يجد ما يقدمه للجيش آنذاك فتبرّع بعرضه، أي بغفرانه لكل من سبه وشتمه [10]. ويروي الشيخان عن رجل تبرّع بنصف صاع من التمر.
زحف العرب لأول مرة في التاريخ باتجاه إمبراطورية روما الشرقية، ووقفوا قُبالتها ببسالة قلّ لها نظير. رجل واحد لم يجد ما ينفقه من أجل الجيش، ولا حتى نصف صاع من التمر. ذلك أنه كان فقيراً لا يملك شيئاً، فهو لا يعمل ولا يريد أن يعمل ويتعالى على صنائع البشر. وليست مصادفة إن وجدنا أن اسمه كان: علي بن أبي طالب. كل رفاقه الذين هاجروا معه من مكة وجدوا ما ينفقون، عداه. سيموت النبي بعد أقل من عامين من تلك المعركة وسيذهب هذا الرجل إلى خليفته يريد مال زوجته، ثم سيذهب إلى الخليفة الآخر يطالبه بالأمر ذاته. تلك أسهل طريقة للحصول على المال،أن يضع يده في ميراث ما. وتلك هي عادة الرجال الذين لا يجيدون أي صنعة، ويمضي بهم العُمر وهم بلا مهارات.
في مطلع النهضة الأوروبية عمل المثقفون، والمتدينون التقدميون، على نشر صورة للمسيح وهو يغسل أقدام حوارييه. قالت تلك الصورة إن المسيح كان يعمل، يكد، ولا يتعالى. ساعدت الصورة، ضمن خطاب إصلاحي جديد، على خروج الناس من القدرية إلى مصادمة الحياة. لا نظير لتلك الصورة في حياة علي. ولو أنه أتقن حرفة ما، لو أنه جلس وساعد زوجته - لا نقول يغسل أقدام جنوده- لخدم التاريخ. بخلاف ذلك ذهب يركض وراء ما تركه والد زوجته له، ثم ركض خلف الخلافة لعل فيها مالاً. في صحيح البخاري أن عليّاً اعترض على العبّاس حين اقترح عليه أن يسألا النبي عن خليفته [11] ، وكانت وجهة نظر علي شارحة لمجمل حياته: إنا واللَه لئن سأَلناها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فمنعناها لا يعطينا الناس بَعده. ذلك مصدر للجاه والمال لا بد أن يبقى متاحاً وممكناً بالنسبة لرجل لا مال له، لا يتقن حرفة، يتعالى على عمل اليد، ولديه تصوّر حول مستقبل تملأه النساء والأبناء.
إن كان عليّاً هو أمين سرّ النبي ووصيّه على الـمُلك فلماذا خاف من سؤال النبي حول من سيخلفه؟ من المحتمل أنه لم يجد، في كل حياته، إشارة واحدة تقول إن النبيّ كان يعوّل عليه في المسائل الكبيرة. ذلك ما جعله يجزم قائلاً: وإني والله لا أسأَلها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
وما إن تموت زوجته فاطمة عن ٢٩ عاماً حتى ينطلق في عالم المتعة، يحصل على الجارية والأخرى حتى بلغن العشرين، ويتزوج المرأة الأخرى، ويتجاوز أولاده الثلاثين. أمام ذلك الحشد الكبير من الأبناء والنساء وقف فقهاء العترة في حيرة من الأمر، إذ من شأن إسباغ القدسية على كل أبنائه أن يدخل فيها دماء من غير دماء فاطمة. تركت فاطمة خلفها غلامين: الحسن والحسين. ومات محسن طفلاً. جاء ذكور آخرون لعلي من نساء أخريات. في لوامع الأنور [12] يبذل مجد الدين المؤيدي قصار جهده لحصر مسمّى آل البيت فقط على الأربعة ومن جاء منهم: علي، فاطمة، الحسن، الحسين. هم الكساء، وبالضرورة فهم فقط من استحق الطهارة. ثم ينتقل بنا إلى جدل آخر يقول فيه إن تلك الطهارة باقي في ذرية الحسن والحسين دون الآخرين من أبناء وبنات علي. صار بمقدورنا، كما يدلّنا المؤيدي، أن نرى أطهاراً وأناساً أقل طهارة داخل بيت علي نفسه. العائلة العملاقة التي أسسها علي بعد موت النبي وفاطمة تمكننا من رؤية رجل شغوف بالحياة ومتعها. لنقارنه بمعاوية، خصمه اللدود: كان لمعاوية ثلاثة أولاد وحسب. أحدهم مات صغيراً، وعبد الله كان رجلاً متواضع العقل، وعمليّاً كان لديه ولد وحيد: يزيد، أمّه ميسون، من قبيلة يمنية هاجرت إلى الشام. كما لو أن معاوية لم يعرف طريق الإنجاب الذي عرفه علي. أو أنه كان أقل شغفاً بلذات الجسد من أبي الحسن.
الرغبوية في حياة علي بحاجة إلى بحث موسّع، ولا يمكن التسليم بما تذكره كتب شيعته. من المثير أن الشيعة غطست إلى حياة الرجل بجرأة وشمولية أكثر من السنة، ووصلت إلى علاقاته الجنسية وأبعد من ذلك. بينما وقفت الرواية السنّية على شواطئه، ترددت وتلعثمت. إن تتبع الحياة اليومية لعلي في المدينة يعطينا صورة عن رجل كسول، متعال، يحب النساء، يعيش داخل جزيرته الخاصة. فهو لم يتخلف عن كل معارك العرب، بما فيها حروب الردّة وحسب، بل أكثر من ذلك: منع جميع أبنائه من خوضها. وكان الأب الوحيد في المدينة، آنذاك، الذي لم يرسل أبناءه إلى أي معركة. كان له ٣١ من الأبناء من أكثر من ٢٤ امرأة وطأها، زوجات وإماء. ما الذي تعلمه الأبناء من أبيهم؟ لا شك أن ما تعلّموه كان حاسماً في حياتهم. فعندما قرأوا رسائل أهل الكوفة، سنة ٦١ للهجرة، التي تطالبهم بالمجيء لاستلام مقاليد الأمور احتشدوا، جمعوا عدتهم، وقطعوا الصحراء بحثاً عن الجاه والمُلك. وهناك في كربلاء قُتل سبعة من أبناء علي دفعة واحدة.
خلال ستين عاماً، منذ الهجرة حتى اللحظة تلك، لم يصب أي من أبناء علي بجروح. عليّ نفسه قاعد نفسه عن النشاط العسكري وهو في سن الثالثة والثلاثين، ثم عاد إليه وهو على مشارف الستين حين يتعلق الأمر بحرب مميتة حول من يصبح ملكاً. يؤكد المؤيدي في لوامع الأنور أنّ عليّاً نأى بنفسه عن شؤون الدولة العسكرية لربع قرن من الزمن، لأنها لم تكن دولة حق، أي ليست دولة هاشمية. وأن عليّاً "اعتزلهم ولم يقاتل معهم، وقد ألظّ عليه عُمر وورم أنفه" يقول المؤيدي وهو يقصد الخلفاء الثلاثة. عليّ، يؤكّد مجد الدين المؤيدي، ادخر رايات رسول الله وسيوفه ليوم الجمل [12]. ذلك أمر محيّر إذا ما استمعنا إلى عليّ شخصياً، كما في مسند الإمام أحمد، وهو يقول: كنتُ رجلاً أحب الحرب. ويروي كيف أنه منح أبناءه الثلاثة "الحسن، الحسين، محسن" اسم حرب، وكان النبي يأتي ويغيّر أسماءهم. كان يصر على أن يكون أولاده رجال حرب، وأن يشتقوا من الحرب أسماءهم. ثم لـمّا كبروا أبعدهم عن كل الحروب التي خاضتها الدولة ضد خصومها من الخارج، وادّخرهم للحرب داخل الدولة.
لنمض قليلاً في المدينة، يمنة ويسرة، ربما نجد أثراً للرجل. ينسب إليه كتاب "نهج البلاغة" - وهو عمل ألفه الشريف الرضي وأخوه مطلع القرن الخامس الهجري- وإن نسبته إلى علي تستحيل علمياً وعملياً [13]. وبحسب ابن تيمية فهو كتاب موضوع، وفي أحسن أحواله فلا يصح منه أكثر من عشره. فجأة، بعد ثلاثة قرون ونصف من موت عليّ، ظهرت نصوص وخطب بلاغية مطوّلة بلا أنساب ولا أسانيد، كأنها ولدت من العدم، وقبل الشريف الرضي فإن أحداً لم يعرف عن تلك النصوص شيئاً لا المحدثون ولا الأدباء.
علي، إذن، يكاد يكون بلا أثر قولي. روى مجموعة من الأحاديث، زهاء ٢٢٠ حديثاً، أو خبراً، وليس في ذلك من ميزة. نسبة ملحوظة من تلك النصوص تتعلق بامتيازه الشخصي، وبمدائح قال إنه سمعها من النبي. بقي إذن القول إن الخليفة كان يستشيره من وقت لآخر، وقد استشار غيره. وحتى إن حدث فهو أمر لا يرتقي به عن مرتبة الرجل العادي. سيرة فقيرة لرجل صنع منه الرواة والحكاؤون أسطورة الأساطير كلها، وجعلوا الملائكة تصيح من السماء "لا سيف إلا ذي الفقار، ولا فتى علي". ولعلي، تقول الأسطورة، سيف اسمه ذو الفقار. ومن عجب أنه لم يخض به حرباً واحدة منذ موت النبي حتى مقتل عثمان، أي على مدى ربع قرن من الزمن.
الحقيقة أن حياة علي مليئة بالفراغ، لا تكاد تعثر فيها على شيء. وما كان ممكناً أن تُبنى أسطورة الرجل على ذلك النحو العملاق [14] لو لم تكن حياته فراغاً واسعاً يصلح لكل ذلك البناء الزائف.
---
مروان الغفوري
من كتاب "على مقام الصبا، رحلة أبي الحسن من العزلة إلى النكسة".
------
مصادر وهوامش:
1- انظر: أثر التشيّع على الروايات التاريخية، عبدالعزيز ولي، ١٤١٥ هـ
2- مسند أبي يعلى، الطبعة الأولى، دار المأمون، الجزء الأول، ص: ٣٤٨
3- ابن الجوزي، الموضوعات، دار الفكر، الطبعة الثانية، الجزء الأول، ص: 342
4- أخرج مسلم الحديث في صحيحه (باب حكم الفيء، حديث رقم ٤٩ – ١٧٥٧) عن الزهري: أن مالك بن أوس، حدثه، قال: أرسل إلّي عمر بن الخطاب، فجئته حين تعالى النهار، قال: فوجدته في بيته جالسًا على سرير، مفضيًا إلى رماله، متكئًا على وسادة من أدم، فقال لي: يا مال؛ إنه قد دف أهل أبيات من قومك، وقد أمرت فيهم برضخ، فخذه فاقسمه بينهم، قال: قلت: لو أمرت بهذا غيري، قال: خذه يا مال، قال: فجاء يرفا، فقال: هل لك ـ يا أمير المؤمنين ـ في عثمان، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير، وسعد؟ فقال عمر: نعم، فأذن لهم فدخلوا، ثم جاء، فقال: هل لك في عباس، وعلي؟ قال: نعم، فأذن لهما، فقال عباس: يا أمير المؤمنين، اقض بيني وبين هذا الكاذب الآثم الغادر الخائن، فقال القوم: أجل ـ يا أمير المؤمنين ـ فاقض بينهم وأرحهم . فقال مالك بن أوس: يخيل إليّ أنهم قد كانوا قدموهم لذلك. فقال عمر: اتئدا، أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض، أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا نورث ما تركنا صدقة؟ قالوا: نعم، ثم أقبل على العباس، وعلي، فقال: أنشدكما بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض، أتعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: لا نورث ما تركناه صدقة؟ قالا: نعم، فقال عمر: إن الله جل وعز كان خص رسوله صلى الله عليه وسلم بخاصة، لم يخصص بها أحدا غيره، قال: مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ )الحشر:7( ما أدري هل قرأ الآية التي قبلها أم لا؟ قال: فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم بينكم أموال بني النضير، فوالله، ما استأثر عليكم، ولا أخذها دونكم، حتى بقي هذا المال، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ منه نفقة سنة، ثم يجعل ما بقي أسوة المال، ثم قال: أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض أتعلمون ذلك؟ قالوا: نعم، ثم نشد عباسًا، وعليًا، بمثل ما نشد به القوم، أتعلمان ذلك؟ قالا: نعم، قال: فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال أبو بكر: أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجئتما تطلب ميراثك من ابن أخيك، ويطلب هذا ميراث امرأته من أبيها، فقال أبو بكر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما نورث ما تركناه صدقة ـ فرأيتماه كاذبًا آثمًا غادرًا خائنًا، والله يعلم إنه لصادق بار راشد تابع للحق، ثم توفي أبو بكر وأنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وولي أبي بكر، فرأيتماني كاذبًا آثمًا غادرًا خائنًا، والله يعلم إني لصادق بار راشد تابع للحق، فوليتها، ثم جئتني أنت وهذا وأنتما جميع وأمركما واحد، فقلتما: ادفعها إلينا، فقلت: إن شئتم دفعتها إليكما على أنّ عليكما عهد الله أن تعملا فيها بالذي كان يعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذتماها بذلك، قال: أكذلك؟ قالا: نعم، قال: ثم جئتماني لأقضي بينكما، ولا - والله - لا أقضي بينكما بغير ذلك حتى تقوم الساعة، فإن عجزتما عنها فرداها إليّ.
5- الحر العاملي، وسائل الشيعة ١٤/٥٨٩. كما هو في: الكافي للكليني ٥/ ٥٦٠، التهذيب للطوسي ٧/٤٨٦. كذلك عند البحراني في الحدائق الناضرة ٢٤/ ٣٢٧. زاد الكليني في الكافي، ناسباً الكلام إلى الحُسين: إنما نساؤكم بمنزلة اللعب.
6- السيد محمد العاملي، نهاية المرام ١/٣٢٣.
7- ابن كثير، البداية والنهاية ٧/٣٦٧
8- الألباني، كتاب دروس الشيخ الألباني، الجزء السادس، صفحة ٨. شرح حديث "إنّ مما أخاف عليكم".
9- رواه الشيخان
10- البيهقي، دلائل النبوة، الجزء الخامس، ص: ٢١٩
11- صحيح البخاري من حديث ابن عبّاس. رقم ٤٤٤٧. يقول العبّاس مخاطباً عليّاً: أنت واللَّه بعد ثلاث عبد العصا، وإنّي واللَّهِ لَأَرى رسول اللَّه صلى اللهُ عليه وسلم سوْف يتَوفَّى من وجَعه هذا. إني لَأَعرف وجوهَ بنِي عبدِ المطلب عند المَوت، اذهب بنا إلى رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم فَلْنسأَلْه فيمن هذا الأمرُ؛ إن كان فينا علمنا ذلك، وإن كان في غيرِنا علِمناه، فأوصى بنا، فقال علي: إنا واللَه لئن سأَلناها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فمنعناها لا يعطينا الناس بَعده.
12- انظر: مجد الدين المؤيدي، لوامع الأنور، الجزء الأوّل، ص: ١١٥-١٢٤.
13- أبو الحسن، السيد محمد بن الحسين بن موسى، ويلقب بالشريف الرضي (٣٥٩ هـ - ٤٠٦). شاعر وفقيه ولد في بغداد وتوفي فيها. عمل نقيباً للطالبيين حتى وفاته، وهو الذي جمع كتاب نهج البلاغة.
14- ألّف جعفر العاملي كتاباً حول سيرة علي أسماه "الصحيح من سيرة الإمام علي". بلغ الكتاب زهاء ٥٣ مجلداً.
عن رجل عادي اسمه "علي"
مجلس الأمن الأعور الدجال
يافطات متعددة لحرب هدفها واحد
عصا ترامب تختار الحوثي
نكران وجحود مأسوري الأيديولوجيا
نتقاسم الفرح والحزن يشيلوه أصحابه