قبل ١٠ سنوات تقريبا كنت في الطائرة راجع من القاهرة بعد مؤتمر إلى برلين وبقدرة قادر وانا ادخل الطائرة المصرية وامشي في الممر لقيت ايوب طارش يحفظه الله في الكرسي مع اسرته. لم أتمالك نفسي وسلمت عليه وكون اسرته معه والناس مطوبرة بعدي يشتوا يمشوا لمقاعدهم اكتفيت بالسلام عليه وكلمتين و واصلت إلى مقعدي في الخلف . وبعد أن أقلعت الطائرة جاء الى عندي ايوب طارش من أدبه وأخلاقه وترك اسرته وجلس جنبي نتحدث وكانت لي مفاجأة كبيرة كوني احب ايوب منذ كنت صغير. المهم المفاجأة ليس ايوب الفنان وانما ايوب المثقف والمتواضع والمؤدب. فقد كان يتحدث معي عن مواضيع مختلفة من روسيا إلى اليمن والشعوب والدولة وانا منصت لقيت في حديثه معي حديث اب ومعلم يعطي من قلبه وينصح، وهو يسرد خلاصة الحياة وبشكل صادق وبدون تكلف.
المهم عرضت عليه أخذه معي ضيف على مدينتي هو واسرته، وأنا بصراحة لا أقدم عرض مثل ذلك إلا إذا كان الشخص كبير قدره في نفسي، فكيف لايوب طارش ومكانته وقدره كبير داخل كل بيت يمني ، فاعتذر كأب، وقال حسب علمه هنا من ينتظر واذا لم يوجد أحد ينتظر له في المطار فسوف يمشي معي. ومجرد أن خرجت من البوابة الداخلية معه لقيت السفارة تنتظره وطلب مني رقمي واعطيته تلفون بيتي والخاص، وبعد كم يوم كان ايوب كأب يتصل بي، وظليت وقتها على اتصالات معه، وكلماته ونقاشه معي عكست في نفسي، الإنسان الخلوق والاب والمثقف، قبل أن يكون فنان. ايوب طارش ترك أثر في نفوسنا وفي اليمن بفنه، عرفه الصغير والكبير ، وترك أثر بمن التقى بهم بشكل شخصي بسلوكه الراقي، ففي كلامه دائما يكون اب لمن عرفه، وفي طرحه تجده قريب لايتكلف، وكبير يحترم من امامه.
فالمثقف اليوم ليس شخص يتحدث عن بحور الشعر ولا مناهج الانتقاد، ولا الشخص الذي يسرد لنا مقتطفات من الحرب والسلام ليو تولستوي أو الصخب والعنف لوليام فوكنر، ولا الشخص الذي يتفلسف امامنا عن السيفونية الكورالية أو القدر لبيتهوفن، ولا من يتحدث عن نظرية الاوتار الفائقة ولا عن الكوانتم كمبيوتر، ولا عن الاقتصاد الكلي لكينز ولا عن القانون الطبيعي لادم سميث ، وليس ذلك الذي يتحدث عن كتاب المختارات ولا النجاة في المنطق، ولا الوجود والعدم. هولاء أشخاص لي امتلكوا معرفة، والتي لاتهمني أنا لا من قريب ولا من بعيد ولا أحب أجلس مع شخص يسرد لي مثل ذلك كاسطوانات مكررة، ولا أعتبر ذلك لي ذو معنى إذا لم يكن الشخص خلوق يكسب من هو أمامه بطرحه وانتقاده يبني لا يهدم أو يقلل أو يحقر جهد غيره، و يكن مثال مؤثر ويكسب من حوله ولو بكلمة بسيطة أو حتى بالايمئات.
المثقف ليس ذلك الكم من المخزون المعرفي، وانما اليوم هو سلوك حضاري وانساني، وايوب طارش لي هو انسان بسيط مكافح من البيئة اليمنية الطيبة، يمتلك سلوك حضاري وانساني ترك أثر، ويؤثر بمن حوله، وكون شخص مثلي في الغرب من ٣٣ سنة لازلت متمسك بايوب طارش واسرد هنا وجهة نظري، فهذا يعني أنه كبير في نفوسنا واثره مستمر في وجدان اجيال تحترمه وتحترم رصيده الفني.
