آخر الأخبار


الاربعاء 16 ابريل 2025
في قلب الهضبة الحبشية، تتربع أديس أبابا، "الزهرة الجديدة"، كما سماها الإمبراطور منليك الثاني، لا كمدينة فحسب، بل كعناق أبدي بين السماء والأرض، بين الإنسان والحضارة، بين الروح والموسيقى.
بل ليست أديس أبابا مجرد عاصمة إفريقية، قدر ما هي قطعة من الجنة، نُثرت على الأرض لتقول لنا: هنا تكشف المحبة الإلهية عن ملامحها، هنا يبتسم التاريخ للحاضر، وهنا تنمو الأرواح في ظلال البن المقدس والقات العريق.
والشاهد إن من يزور أديس أبابا لأول مرة، يظن أنه دخل مسرحا مفتوحا تُعزف فيه الموسيقى في كل ركن وزاوية، لا ضجيج هنا، لا صراخ، بل انسياب هادئ للنغمات، كأن المدينة كلها تشارك في سيمفونية خفية لا يدركها إلا من غسل قلبه بماء المعرفة والتسامح.
نعم ، البشر هنا ليسوا عابرين في الزحام، بل مضيفين دائمين في وليمة الحياة، ترحب بك وجوههم بابتسامة عميقة، تنبض بالرقي والاحترام.
وفي أديس أبابا، تنمو الأشجار كما تنمو القيم، تتعانق المباني الجديدة مع إرث المعمار الإمبراطوري، وتتنفس الأرض من خلال مشاريع تنموية مضاعفة ومبهرة جعلت منها واحدة من أسرع المدن نموا في إفريقيا.
في الحقيقة إنها مدينة لا تُنافس الحاضر فحسب، بل تستدعي الماضي ليكون شريكا في رسم المستقبل.
أما حين تذكر أديس أبابا، فلا بد أن تستحضر الامتداد العميق الذي يربطها بتاريخ اليمن وسبأ وبلقيس.
هنا، تبدو التقاطعات الحضارية ليست مصادفات جغرافية، بل أقدار مقدسة، نجد "يمنت" و"حبشت" تتعانقان عند شواطئ البحر الأحمر، كأنهما لا زالتا تعيشان عهد التحالف الأزلي بين مملكة سبأ وممالك الهضبة الحبشية في أكسوم.
وهو تحالف لم تصنعه المصالح فحسب، بل كتبته النجوم وباركه الماء والنقوش.
نقوش خط المسند، التي خلّد بها اليمنيون مآثرهم، تجد صدى لها في الحرف الجعزي الإثيوبي، وكأن الأبجدية نفسها اختارت أن تكون جسرا روحيا بين ضفتي البحر.
على إن هذا الترابط اللغوي والثقافي ليس دليلا على الجوار فحسب، بل على وحدة الذاكرة العتيقة، تلك التي خطّت سيرة سليمان وبلقيس في الأسفار السماوية، ثم أنزلتها إلى الأرض في صورة حضارات متعانقة، متآخية، رغم تعاقب العصور وصروف الزمان.
كذلك فإن أديس أبابا ليست فقط العاصمة السياسية لإثيوبيا، بل هي المركز الروحي والوجداني للقارة. منها انطلقت دعوات الوحدة الإفريقية، وفيها تأسست منظمة الاتحاد الإفريقي، وكأن المدينة ورثت من الملوك السابقين مهمة جمع الشتات وإعادة تعريف معنى الانتماء.
هذه الوظيفة الحضارية التي تتجاوز الحدود القومية، هي امتداد أصيل لوظيفة اليمن التاريخية في الجنوب العربي، حين كان اليمن نقطة انطلاق القوافل والبعثات الحضارية نحو شرق إفريقيا وداخلها.
وإن كانت البنادق قد سكتت في بعض العواصم الإفريقية لتُستبدل بالصمت، فإن أديس أبابا اختارت الموسيقى بديلا، ورفعت القات والبن إلى مصاف الرموز الثقافية، كما لو أنها تقول: نحن لا نحيا لنقاتل، بل نحيا لنحتفي بالحياة.
القات هنا ليس مجرد نبات، بل طقس تأمل، ومناسبة للحوار، ووسيلة لإبطاء الزمن كي نستطيع تذوقه.
أما البن، فله مكانة خاصة، فهو هدية الهضبة للعالم، ومصدر فخر قومي، ورائحة صباحات لا تُنسى.
صدقوني أن المشهد العام في أديس أبابا هو نتيجة معجونة بالحب والكد، لا شيء يُمنح دون تعب، ولا شيء يُنسى بسهولة.
المدينة تنمو في كل اتجاه، وتفتح ذراعيها للحب بثقة، دون أن تنسى جذورها الممتدة إلى ما قبل الميلاد، إلى زمن الملكات والأنبياء، إلى لحظة اللقاء الأول بين حضارات البحر الأحمر.
ولعل أجمل ما في هذه المدينة أنها تترك في القلب أثرا لا يُمحى.
لذلك فمن لم يزر أديس أبابا، لن يفهم كيف يكتب الله المحبة بلغة المدن والبشر.
نعم ،هنا لا تحتاج إلى معجزات لتؤمن بالجمال، يكفيك أن تمشي في شوارعها، تستمع إلى أغانيها الشعبية، وتحتسي عيون الناس الغارقة في الأسرار النبيلة، لترى الله في التفاصيل، في الرقي البشري، في الشجر، في الأبجدية القديمة، وفي ابتسامة طفل.
نعم ،أديس أبابا ليست مجرد مدينة... إنها تذكرة مفتوحة إلى السماء.
*نقلا عن صفحة الكاتب على الفيسبوك
مافيا الوقود في اليمن
أديس أبابا... نداء الجنة من قلب إفريقيا
القمامة في تعز: بين الذكريات والحلول
عن الاعتذار اليمني للعراق
يحرقوا بقاز..